كثيرة هي التصريحات الروسية والإسرائيلية، سواء الرسمية منها أو
الإعلامية، التي تتحدث عن مستقبل الجنوب السوري (درعا، القنيطرة)، وسط صمت أمريكي
مقصود، وصمت أردني لا تُعرف أسبابه.
الحديث
يجري عن انسحابات إيرانية من الجنوب ووصول قوات النظام إلى الحدود مع إسرائيل في
الجولان والحدود مع الأردن، دون أي ذكر مفصل لمصير فصائل المعارضة المتواجدة هناك،
خصوصا عند الحدود السورية ـ الأردنية.
ثمة
أمران يجب التوقف عندهما: الأول أن اتفاق خفض التصعيد في الجنوب لم يتم إعلان
تفاصيله منذ إقراره، وأول إعلان رسمي جزئي له جاء من روسيا مع تأكيدها أن قوات
النظام يجب أن تنتشر عند الحدود الأردنية تطبيقا للاتفاق، وإذا كان ذلك صحيحا، فإن
الولايات المتحدة قد وجهت ضربة قاضية للمعارضة السورية وأخذتها على حين غرة،
والأمر الثاني أن الصمت الأمريكي يدلل على موافقة واشنطن للترتيبات الروسية في
الجنوب التي قد تشمل منطقة التنف عند المثلث الحدودي السوري ـ الأردني ـ العراقي.
الصيغة
المتوفرة إلى الآن تقول إن إيران والقوات التابعة لها ستنسحب من المناطق الحدودية
في الجنوب بعمق عشرات الكيلومترات إلى الشمال على أن تنتشر قوات النظام على الحدود
الأردنية وبأسلحتها الثقيلة في الجزء المحرر من الجولان المحتل بشكل مؤقت،
والمقصود بالجزء المحرر ليس المنطقة منزوعة السلاح المحصورة بين خطي (ألفا وبرافو)
المخصصة لقوة مراقبة فصل القوات التابعة للأمم المتحدة (أندوف)، وإنما المناطق
المحدودة السلاح التي تصل إلى عمق 25 كلم تقريبا في الأراضي السورية، أي عند خط
يمر في قرى بيت سابر، إنخل، خربة جلة، وينتهي في الكوكلية على حدود الأردن جنوبا.
ومن
ضمن الصيغة المطروحة أيضا، حرية إسرائيل في شن عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية
وفق ثلاثة شروط روسية، الأول أن تقتصر العمليات العسكرية الإسرائيلية على مصادر
الخطر، الثاني عدم شمولها مواقع تابعة للنظام السوري، الثالث إخبار موسكو بأي ضربة
عسكرية قبل تنفيذها.
الصمت
الأمريكي يبدو خطيرا، فلم تصدر أي تصريحات أمريكية سوى تلك الصادرة من وزارة
الخارجية وتحذر النظام من شن عملية عسكرية، في وقت لم تصدر تصريحات بشأن ترتيبات
الجنوب، ويخشى أن يكون هذا الصمت تمهيدا لكارثة سياسية تحل بالمعارضة.
ويبدو
أن ثمة صفقة أمريكية ـ روسية تتجاوز مسألة الجنوب، فالتراجع الإيراني من الجنوب
ليس له قيمة بالمعنى الاستراتيجي لإسرائيل وأمريكا، لأنه تواجد خفيف ولا يغير من
معادلة الصراع مع إسرائيل ولا يشكل تهديدا لها، على العكس ربما يعطي فرص لإسرائيل
ومبررا شرعيا للاستمرار في عملياتها العسكرية، فضلا عن أن الوضع الحالي سمح
لإسرائيل باختراق اتفاقية فك الاشتباك عبر التقدم كيلومترات عدة في المنطقة منزوعة
السلاح، ومن شأن عودة قوات النظام أن يعيد الأمور إلى نصابها ولو بعدة فترة وجيزة.
كما
أن تنازل واشنطن عن المعابر الحدودية مع الأردن وتسليمها للنظام يشكل قطيعة مع الاستراتيجية
الأمريكية التي طالما اعتمدت الحرب الاقتصادية كأداة ضغط على النظام تمنعه من
استرجاع عافيته.
صحيح
أن الأردن يضغط سرا على الولايات المتحدة لفتح المعابر كونها توفر له ما يقارب نصف
مليار دولار سنويا، لكن خطوة كهذه سيكون لها تداعيات كبيرة.
وما
يعزز وجود صفقة روسية ـ أمريكية ما سربته مجلة «نيوزويك» عن استعداد واشنطن لسحب
بعض قواتها من محيط معبر التنف، وهي منطقة خارج المعادلة الإيرانية ـ الإسرائيلية
في الجولان ودرعا، بمعنى أن الصفقة قد تشمل مستوى الوجود الإيراني في كامل
الجغرافيا السورية من جهة وتشمل ترتيبات سياسية من جهة ثانية.
وبطبيعة
الحال كشفت السنوات الثلاثة الماضية أن التفاهمات الروسية ـ الأمريكية تأتي دائما
على حساب المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، بدءا من اجتماعي فيينا الأول والثاني
نهاية 2015 ومرورا بالقرار الدولي 2254 وثيقة دي ميستورا وانتهاء بمسار أستانا
الذي حظي بموافقة أمريكية مضمرة واتفاقية الجنوب التي على ما يبدو ستنهي وجود
المعارضة المسلحة، إما عن طريق مغادرة الجنوب إلى الشمال أو على صيغة البقاء من
دون أسلحة خفيفة شرط أن تسلم مناطقهم إلى الشرطة العسكرية الروسية تحت علم النظام
السوري.
يتضح
مما سبق أن المعادلة التي يجري تنفيذها في الجنوب لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح
المعارضة السورية، كما لا تأخذ أيضا بعين الاعتبار المصالح الإيرانية، في خطوة
تساوي بين المعارضة وإيران وتضعهما على المستوى ذاته.
من
شأن ترتيبات الجنوب إن طبقت أن تشكل بداية مرحلة جديدة وهامة من عمر الأزمة
السورية، وإذا ما ربطنا ذلك مع الانفتاح الأمريكي على تركيا من بوابة منبج، يمكن
القول إن استراتيجية أمريكية حيال سورية بدأت تظهر معالمها.