نشرت مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" تقريرا لمراسلها تايلور لوك، يقول فيه إن التونسي طارق دزيري لا يستطيع أن ينسى الثورة التونسية ولو لدقيقة واحدة، حيث كان عمره 26 عاما، وكان أبا جديدا، يعمل طباخا في بلدة الفحص، التي تبعد 40 ميلا عن العاصمة تونس، عندما قامت الثورة في أواسط تونس في كانون الأول/ ديسمبر 2010، ضد الرئيس الديكتاتور زين العابدين بن علي.
ويشير التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أنه في 12 كانون الثاني/ يناير 2011، قرر دزيري وأصدقاؤه الانضمام إلى الثورة، وقاموا بالتظاهر أمام محطة شرطة الفحص؛ للاحتجاج على قتل المدنيين الأبرياء، وقام رجال الشرطة بإطلاق النار على الشباب، فأصابت دزيري رصاصة في كتفه، وأخرى في رئته.
ويذكر لوك أنه عندما جاءت الشرطة للمستشفى المحلي في تلك الليلة، ظاهريا لاعتقاله، لكن في الغالب لـ"إنهاء المهمة"، بحسب دزيري، قامت ممرضة ذكية بتهريبه في سيارة إسعاف إلى مستشفى بن عروس بالقرب من العاصمة على بعد ساعة، مستدركا بأن المحنة تركته مشلولا في النصف السفلي من جسده.
وتقول المجلة إنه "بعد سبع سنوات، فإن الكثير تغير بالنسبة لدزيري وبالنسبة لتونس، لكن ليست كلها للأفضل، فكونه على كرسي متحرك الآن فإنه يجد صعوبة في الحصول على عمل، وأوقفت الحكومة تمويل علاجه في فرنسا، بالإضافة إلى انها أوقفت دفع مبلغ 175 دولارا شهريا لشراء العلاج والمسكنات، ولا تزال هناك رصاصة من نظام ابن علي بالقرب من قلبه".
ويستدرك التقرير قائلا بأن ما يؤلمه أكثر هو رؤية بلده تنحدر في سياسة الاستقطاب والتراشق بالشتائم، وعودة شخصيات النظام القديم إلى الواجهة، وإهمال مناشدات الطبقة العاملة، وذلك كله باسم الثورة، مشيرا إلى أن من بين رجالات نظام ابن علي الذين عادوا، الرئيس بيجي قايد السبسي، ووزير المالية رضا شلغوم، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، بالإضافة إلى أن كبار أعضاء القوات الأمنية، الذين طبقوا أوامر ابن علي بإطلاق النار أولا، لا يزالون في مناصبهم حتى اليوم.
ويلفت الكاتب إلى أنه في الوقت ذاته، فإن النخبة الساحلية التي استفادت من فساد نظام ابن علي، مُنحت عفو عام، بموجب قانون المصالحة الذي مرره البرلمان، الذي شمل شركاء وحلفاء سابقين لابن علي، مشيرا إلى أن البرلمان وجه صفعة لهيئة الحقيقة والكرامة، حيث رفض تمديد صلاحياتها في آذار/ مارس، ما يعني أنها لم تعد قادرة على تحويل القضايا للمحاكم.
وتنقل المجلة عن دزيري من تونس العاصمة، قوله: "نزلنا إلى الشارع وضحينا بأنفسنا من أجل حياة كريمة وحرية وعدالة اجتماعية.. والآن من يستفيد هم السياسيون الذين لم يكونوا معنا أصلا.. فهل هذا هو ما ثرنا لأجله؟"
ويؤكد التقرير أن الديمقراطية في تونس حظيت بوضع أفضل من غيرها من البلدان العربية عقب الربيع العربي، حيث أعلن عشرات آلاف الأشخاص ترشحهم للانتخابات المحلية في بداية شهر أيار/ مايو، لافتا إلى أنه بالمقارنة مع مصر، فإن هناك تراجعا في الديمقراطية، حيث حصل الرئيس عبد الفتاح السيسي على 97% من الأصوات، وكانت نسبة من خرج للتصويت 41%.
ويجد لوك أنه مع ذلك، فإن الديمقراطية فشلت في معالجة الجروح القديمة في تونس، حيث تستمر المظلوميات المتعلقة بعدم المساواة والفساد، مستدركا بأن تجربة الانتقال من الديكتاتورية علمت التونسيين أشياء كثيرة، منها أن الديمقراطية لها إشكالياتها والانقسامات التي تتسبب بها، بالإضافة إلى أن السياسة بطيئة التقدم، والتنازل صعب، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية معركة طويلة الأمد، وليست مجرد شعار يرفع في مظاهرة.
وتورد المجلة نقلا عن تونسيين، قولهم إن الثورة كانت الجزء الأسهل، حيث أن أمل ذافولي، وهي في الثلاثينيات من عمرها الآن، وكانت من أول من تظاهر في سيدي بوزيد، التي انطلقت منها الثورة، لم تستطع هي وزميلاتها وأقاربها أن يجدوا عملا خلال السنوات التي أعقبت الثورة في بلدها، التي حرمت مثل معظم مجتمعات الداخل والجنوب في تونس من الاستثمار على مدى العقود الخمسة الماضية، فيما تصل نسبة البطالة هناك إلى 30%، وهو ضعف معدل البطالة في العاصمة تونس.
وينوه التقرير إلى أن هناك ارتفاعا في حالات الانتحار في البلدة، التي يصل عدد سكانها إلى 50 ألف نسمة، ففي كانون الثاني/ يناير حاول 33 مواطنا الانتحار، لافتا إلى أن هذا أعلى عدد في أي منطقة في تونس، ومساو تقريبا لمحاولات الانتحار على مستوى بقية البلاد، الذي وصل إلى 39 حالة، بحسب المنتدى التونسي للاقتصاد والحقوق الاجتماعية.
ويبين الكاتب أنه من أجل جذب الانتباه إلى معاناتهم، فإن ذافولي ومواطنين آخرين من سيدي بوزيد قرروا أن يبدأوا إضرابا عن الطعام في العاصمة في شهر شباط/ فبراير، وكان ذلك واحدا من العديد من الاحتجاجات، حيث سجلت الحكومة 13 ألف احتجاج مشابه عام 2017 فقط.
وبحسب المجلة، فإن الناس كانوا يمرون من فوق أكياس النوم للمحتجين الستة من سيدي بوزيد، الذين قادوا ثورتهم، وبالكاد يلاحظونهم، وتقول ذافولي: "كنا نأمل أن نحقق عدالة اجتماعية ومساواة اقتصادية.. ليس أحزابا سياسية فاسدة، وحكومة تعمل لصالح جماعات الضغط ورجال ونساء الأعمال.. إن الوضع الآن أسوأ من أيام ابن علي".
ويشير التقرير إلى أن من يحكم تونس اليوم حكومة ائتلاف بين حزب النهضة، الذي كان محظورا أيام ابن علي، وحزب نداء تونس، الذي يجمع بعض الليبراليين مع بقايا نظام ابن علي، حيث تمت مشاركة السلطة عام 2015 عندما شكل الحزبان أكبر كتلتين في البرلمان، مستدركا بانه مع أن هذا الائتلاف يحافظ على شيء من الاستقرار في تونس، إلا أن المحللين والمطلعين يقولون إن هناك سباقا بين الحزبين للسيطرة على المؤسسات.
وينقل لوك عن مطلعين، قولهم إن هناك تعيينات سياسية في كل من اللجنة الانتخابية، وتعيينات قضائية، ولجنة مكافحة الفساد، التي هي مؤسسات مستقلة مبدئيا، وبأن هذه التعيينات تستخدم لتصفية حسابات قديمة، مشيرا إلى قول الأمين العام للجبهة الشعبية المعارضة حمة الهمامي: "هذه الحكومة مهتمة بتحقيق المنافع الشخصية أكثر من تحسين حياة التونسيين المهمشين الذين قادوا الثورة".
وتذهب المجلة إلى أن الإعلام يؤدي دورا في هذا الشحن الحزبي، حيث اشترت الأحزاب وممولوها وسائل إعلام بعد سقوط ابن علي، فأصبحت تلك الوسائل أبواقا حزبية ليس إلا.
ويورد التقرير نقلا عن أستاذ التاريخ والثوري السابق عبد الرحمن بن حسن، قوله: "في موسم الانتخابات يقوم الإعلام فجأة بشيطنة الإسلاميين، ويصور الشباب على أنهم عصابات، ويصبح الإرهاب فجأة تهديدا وشيكا.. يستخدمون الخوف كل دورة انتخابات ليبعدونا عن أولوياتنا الحقيقية: الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وينجحون في ذلك في كل مرة".
ويفيد الكاتب بأن "الأمر لا يتوقف على الأحزاب السياسية، بل هناك جماعات ضغط برزت من رماد نظام ابن علي، لتصبح من اللاعبين المهمين وصانعي الملوك، بما في ذلك اتحادات، وأصحاب مصانع، وملاك أراض، ورجال أعمال مؤثرين، وحتى المستوردين والتجار غير المرخصين، الذين لا يدفعون الضرائب والجمارك -اقتصاد السوق السوداء- فهم يدعمون سياسيين وأحزابا سياسية؛ في محاولة لمنع القوانين التي تفرض عليهم الضرائب، ويشكل هذا السوق 45 إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي، بحسب مجموعة أكسفورد التجارية".
وتجد المجلة أن أكبر إنجاز حققه التونسيون قد يكون هو الدستور الذي تمت صياغته، وصادقت عليه جمعية تأسيسية مكونة من 217 عضوا، هي السبب في فشل الحكومة الحالية في تحقيق تقدم في مجال الإصلاحات.
وينوه التقرير إلى أن نظام الحكومة في الدستور كان عبارة عن حل وسط، حيث كان يخشى الإسلاميون واليساريون من ناحية عودة ديكتاتورية الشخص الواحد، وكانت النقابات ورجال الأعمال يفضلون سلطة تنفيذية قوية، فكانت النتيجة حكومة برلمانية ورئيسا تم إضعافه جزئيا، وكما هو الحال في معظم الأنظمة شبه الرئاسية، يكون رئيس الوزراء هو رأس الحكومة، والرئيس هو رأس الدولة.
ويبين لوك أنه في الوقت الذي تعد فيه الرئاسة في كثير من الأنظمة البرلمانية منصبا فخريا، إلا أن الرئيس في تونس يتمتع بسلطات تنفيذية شبه مستقلة، يلف الغموض تعريفها، حيث يصادق على القوانين، ويتعامل مع السياسة الخارجية، ويعين القضاة ورجالات الأمن والدبلوماسية، وذلك كله بناء على تنسيب الحكومة.
وتجد المجلة أن هذا كله أدى إلى فوضى، وحكومة ضعيفة، أسيرة ائتلاف هش في البرلمان، ولا تتمتع بالاستقلال أو الاستقرار، الذي يسمح لها بالدفع بإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية، مثل إصلاح النظام الضريبي، أو إصلاح شرطة مرحلة ابن علي.
ويلفت التقرير إلى أن الحكومة اقترحت قانون المصالحة الإدارية، بحيث يمنح المسؤولون والمواطنين الذين استفادوا ماليا من نظام ابن علي عفوا عاما، فقامت مظاهرات كبيرة بعنوان "مانيش مسامح"، ووحدت تلك المظاهرات القوميين والإسلاميين وسكان المناطق المهمشة لأول مرة خلال سنوات، مشيرا إلى أنه تم تمرير صيغة مخففة من القانون في أيلول/ سبتمبر، ليشمل في حالة الموظفين الحكوميين فقط أولئك الذين لم يستفيدوا ماديا من الفساد، ونظر الشباب الثائرون إلى ذلك باعتباره انتصارا.
وينقل الكاتب عن المترجمة ومنظمة مظاهرات "مانيش مسامح" عزة دربالي، قولها: "في الأيام الماضية كنا نخاف من قول ما يخطر في بالنا بخصوص السياسة في بلدنا.. لكن هذا الجيل الذي نشأ مع الثورة يذهبون للشارع، ويتظاهرون مباشرة؛ ليسمعوا صوتهم ويصنعوا التغيير".
وتورد المجلة نقلا عن تونسيين، قولهم إن التمكن من الاختلاف بشكل متحضر، وأن يسمع الشخص صوته، والتنظيم السلمي، والتظاهر، والضغط هو معنى الديمقراطية، وهو ما كانت الثورة التونسية لأجله، و"قد تكون هذه هي النعمة التي أنقذت تونس".
وتختم "كريستيان ساينس مونيتور" تقريرها بالإشارة إلى قول دزيري: "لو عدت إلى الوقت الذي كان فيه هؤلاء الناس كلهم في الشوارع عام 2010 سأفعلها ثانية .. قد يتعافى جسدي وقد لا يتعافى، لكن خوفنا ذهب إلى الأبد".
جون أفريك: هل يخبئ العالم العربي بذور ربيع جديد؟
فايننشال تايمز: كيف احتفظت تونس بآمال الربيع العربي؟