كنت مع عائلتي في زيارة لمتحف العلوم في لندن، وعند المدخل ندت عن
"أم المعارك"، صرخة جعلت رؤوسا كثيرة تلتفت إليها، لتقصي ما إذا كانت
بحاجة إلى نجدة (وكان ذلك في عصر ما قبل اكتشاف الغربيين أن كل صرخة تصدر عن
مسلمة/ مسلم نذير بعمل إرهابي)، وتخيل مدى إحساسي بالحرج عندما اكتشفت أنها ارتعبت
من تمثال شمعي لستيفن هوكينغ.
هوكينغ
هذا ارتحل عن الدنيا عن 76 سنة، قبل أسابيع قليلة، بعد أن ظل على مدى نحو نصف قرن
محل احترام الدوائر العلمية، بوصفه من أبرز علماء الفيزياء النظرية وعلم
الأكوان (كوزمولوجي) في القرن العشرين، ومطالع القرن الحادي والعشرين.
أصيب
هوكينغ بخلل في الجهاز العصبي وهو طالب بالسنة النهائية بجامعة أوكسفورد، وتفاقم
المرض حتى أصيب بضمور شبه كامل في العضلات وشيئا فشيئا فقد القدرة على الحركة
والكلام، والأكل والشرب وعاش نحو نصف قرن من عمره وهو مزود بشبكة من الأسلاك
والمعدات تعينه على التغلب على الإعاقات التي نجمت عن المرض (وهو ما جعله يبدو
ككائن من أفلام الخيال العلمي، مما يبرر صرخة أم المعارك تلك- واللي ما يعرفك
يجهلك).
وهو
على تلك الحال، حصل هوكينغ على أرفع الدرجات العلمية في مجالات الفيزياء، وظل يؤلف
الكتب، ويقدم المحاضرات عبر وصلات الكترونية، وظل يرفض بشدة التحدث عن نفسه كشخص
يعاني من إعاقة، وقال مرارا إنه شخص طموح يحلم بإنجاز أشياء معينة شأنه في ذلك شأن
أي شخص آخر.
لم
يكن هوكينغ من ذلك الصنف من العلماء، الذي ينعزل عن العالم ويكرس كل وقته وفكره
لمجال تخصصه، بل كان صاحب مواقف سياسية جريئة، فقد كان في طليعة من عارضوا الغزو
الأمريكي للعراق عام 2003، وكان من أنصار نزع السلاح النووي كليا.
هوكينغ
من أولئك الذين ينظرون إلى إعاقتهم ليس كـ"عائق"، بل فرصة وتحديا لبذل
أقصى الجهد لتحقيق الغايات التي ينشدونها، من أمثال فرانكلين روزفلت الذي عاش عمره
كله وهو يعاني من شلل نصفي، والذي كان الرئيس الأمريكي الوحيد الذي يحكم لثلاث
ولايات، وقاد بلاده إلى الخلاص من وهدة "الكساد الاقتصادي العظيم"، ثم إلى
التحول إلى قوة عالمية، عندما أدت مشاركة بلاده في الحرب العالمية الثانية، إلى انتصار
الحلفاء على ألمانيا النازية.
والبرت
آينشتاين عبقري الفيزياء الذي فتح المسالك أمام هوكينغ وغيره من علماء الطبيعيات،
كان عاجزا عن الكلام بطريقة سليمة حتى بلغ التاسعة، وظل في سنوات الدراسة يتعرض
للاتهام من مدرسيه بالغباء، لأنه كان يعاني من صعوبة التعلم (ديسليكسيا)، وفشلت
محاولته الأولى للالتحاق بالجامعة لرسوبه في العديد من المواد الأكاديمية، ولكنه
كان يعرف قدر نفسه، وصار شيخ علماء الفيزياء عبر التاريخ على الإطلاق.
وإذا
ألهم الله قارئا الصبر حتى يصل إلى هذه الفقرة من مقالي هذا، فإنه قد يكون باحثا
عن صاحب إعاقة عربي حقق مراده وطموحاته بصورة تستحق التسجيل، أو مستنكرا عدم بدء
المقال بمثل تلك الشخصية العربية.
حسنا:
عندنا طه حسين، الذي لخص ملحمته البطولية في التغلب على فقدان القدرة على الإبصار
في كتاب "الأيام "بجزأيه، وصار من أشهر النقاد والأدباء العرب في القرن
العشرين، وصولا إلى كرسي وزارة المعارف (التعليم) حيث رفع شعار: التعليم كالماء
والهواء.
وإليكم
أيضا أعمى المعرة، أبو العلاء، الشاعر الفذ الفيلسوف الذي كان موسوعي المعرفة،
باستخدام حاسبة السمع فقط، وقدرة عالية على تخزين وهضم المعلومات، وكان من الطبيعي
أن يحظى إنتاج المعري من الشعر والنثر بتقدير طه حسين، الذي صدر له في خمسينات
القرن الماضي كتاب "مع أبي العلاء في سجنه".
(عنوان
الكتاب هذا مأخوذ من أبيات شعرية للمعري:
أراي
في الثلاثة من سجوني / فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي
ناظري ولزوم بيتي / وكون النفس في الجسم الخبيث)
ذوي
الإعاقات العرب الذي صنعوا لأنفسهم أمجادا يخلدها التاريخ، فعلوا ذلك بـ"العصامية"،
بينما عشرات الغربيين الذين خلدهم التاريخ وجدوا من أجهزة ومنظمات بلدانهم كل
المعينات التي تجعلهم يتغلبون على المعوقات لينجزوا ما أنجزوا.
وعندنا
في العديد من الدول العربية مؤسسات ضخمة وفخمة مخصصة لذوي الإعاقة، ولكن معظمها
يدار لتمجيد من يديرونها وليس من يحتاجون إليها، فتسمع عن المهرجانات التي تقيمها
والتي يتم خلالها تقديم "نماذج" لذوي إعاقة فازوا بوظائف أو مارسوا
نشاطا من نوع ما بنجاح طيب أو نسبي.
ذلك
أن تقديم الخدمات لذوي الاحتياجات الخاصة في الجزء الذي يخص العرب من العالم يتم
بعقلية "إبراء الذمة": نسوي اللي علينا والباقي على الله (ولا تقل لهم
أن الأمر كله من المُقًدّم إلى الباقي على الله، لأنهم لا يرضون أن تنكر أنهم
"سووا" جانبا منه).
أصلا
لو كان أمر ذوي الإعاقة يهمنا، لما قامت مؤسسات حكومية ضخمة لتعليمهم وتأهيلهم،
فالصحيح هو أن يتم استيعاب معظم ذوي الإعاقات الحركية والحسية في النظام التعليمي
العام، لينشأوا ويتطوروا أكاديميا مع أقرانهم، نجاحا أو رسوبا.
ثم
أصل إلى حكاية رشا كشان، أول سودانية تعمل في هيئة بي بي سي الإعلامية العملاقة
(زينب البدوي عملت في بي بي سي وغيرها بوصفها بريطانية، وكان والدها محمد خير
البدوي من أقطاب إذاعة هنا لندن، وفارسا جسورا في الساحة السياسية السودانية).
رشا
نالت البكالوريوس في الإعلام من جامعة الخرطوم، ومن تجربة لا تسر عدوا أو حبيا مع
الصحافة السودانية، ذهبت إلى بريطانيا، والتحقت بجامعة لنيل الماجستير في الصحافة
المكتوبة، ثم عملت في محطات إذاعية وتلفزيونية ووكالات أنباء في لندن، حتى صارت
صاحبة خبرة وقدرات إعلامية متنوعة.
شيئا
فشيئا صارت مدى إبصارها يتدنى ويتدهور، وعندما تقدمت للعمل في قناة فضائية عربية
كانت مكاتبها في لندن، نجحت في الامتحان التحريري ولكنها استبعدت من المنافسة فور
اكتشاف قصور وظائف عينيها.
بكل
مثابرة واصلت رشا كشان بحثها عن عمل تحقق فيه طموحاتها كإعلامية ناضجة أكاديميا
ومهنيا، حتى انتهى بها المطاف في تلفزيون بي بي سي العربي، وكانت مدى قدرتها على
الإبصار وقتها قد تقلصت كثيرا.
عندما
جلست لاختبار اختيار الصحفيين في بي بي سي، كانت الهيئة تعرف أنها تعاني من إعاقة
بصرية، فجعلوها تجلس للاختبار على كمبيوتر بشاشة عريضة وأزرار مفاتيح بارزة،
وقالوا لها إنه سيتم منحها زمنا إضافيا كي تريح عينيها بعد الانتهاء من كل جزء من
الامتحان.
ثم
فقدت رشا القدرة على الإبصار كليا وهي تعمل في تلفزيون بي بي سي، ولكن ذلك لم يحل
دونها والترقي، ورئاسة فريق كبير من الصحفيين المبصرين، ومؤخرا أسندوا إليها مشروع
تدريب القيادات التحريرية المستقبلية، من ذوي الإعاقات، تحت مسمى "فلاي هاي/
حلِّق عاليا".
ما
كان لهوكينغ ورشا أن يحققا شيئا، لو لم يعيشا في بيئة حاضنة وراعية للمواهب، دون
تمييز على أساس القدرات الجسدية أو الحسية، ولو بقيت رشا كشان في السودان لكانت
اليوم كما المعري رهينة ثلاثة سجون.