سبعون عاماً، عامٌ يتلوه عام، والجرح ينزُّ دماً طريّاً وكأنّ عمره ثوان! يشيب الجريح بل ربّما يموت، بيد أنّ الجرح لا يعني له الزمان إلاّ اتساعاً في العمق وقساوةً في الألم؛ ذلك أنّه يتجدّد كلّ يوم بل كلّ لحظة!
سبعون عاماً والجريح يشقّ صفوف الزمن ويرشق دمه على مساحات الوطن حاملاً رايته المخضّبة؛ لا يتأوّه، لا يتلوّى، لا يوقفه سفح دمٍ، ينظر إلى الملايين من الجرحى يتراكمون حوله مع السنين فيشدّ قبضته على رايته ويمضي كالسهم في غايته عبر أفق الزمان واتساع المكان!
سبعون عاماً عمر الجرح؛ لكنّ رحى الصراع وحروبه ومعاركه ومؤامراته وانتصاراته وصموده وتضحياته تتجاوز المئة عام! نعم! مئة عام أو أكثر من الصراع تخلّف جرحاً تتلوه جراحُ تمتدّ لسبعين أخرى، وعدّاد الإصرار لا يهدأ ولا يلين مع عدّ السنين!
قبل سبعين عاماً حمل السبعينيّ الجريح روحه الثائرة ولفّ بها ذريّته قائلاً لهم: إن هي إلاّ أيّامٌ ونعود! فاحملوا روحي ولا تنظروا لجرحي! واليوم يقف السبعينيّ الحفيد صامداً يحمل روح الجدّ بيد ويضغط على جرحه الطريّ باليد الأخرى، ويهتف بذريّته حوله: دونكم روحي ورايتي وخلّوني مع جرحي لتبلغوا غايتي!
هذه هي روح الذكرى هذه المرّة كي لا ننسى!
فلا يمكن اعتبار هذه الذكرى السبعينيّة لنكبة شعبنا وتشريده في شتّى أصقاع الأرض حدثاً عادياً؛ ولهذا لا بدّ أن نجعل منه فرصة نستلّها من بين أنياب الآلام والجراحات والعذابات والمؤامرات والانتصارات والتضحيات، لتبقى الروح ثائرة والراية عالية! وليظهر بل ليتأكّد عُمق الصمود والإصرار من هذا الشعب على استرداد حقّه رغم جراحه.
الأمل معقودٌ على شعبنا كما عوّدنا أن "يقود" هذه الذكرى بفعالياتها ومفرداتها ومعانيها وروحها وألَقها بروحٍ غير تقليديّة تتناسب وإبداع الصمود، وأن نريَ عدوّنا منّا شيئاً مختلفاً هذه المرّة، فنفاجأه كما هي عادة شعبنا الذي ما فتيء يجترح البطولات والمعجزات.
فشعبنا عموماً - وفي الخارج خصوصاً - يمتلك تنوّعاً شمولياً، وله القدرة على التشبيك والشراكة بين أكبر عدد ممكن من الأطر العاملة للقضيّة والشعب على الأرض. ليس من شعبنا فقط، بل مِن كلّ مَن يريد العمل من أبناء شعبنا وأمّتنا واحرار العالم.
من كلّ أصقاع الأرض سنخرج، وبكلّ لغةِ سنثأر؛ فلا نقتصر على مجال مهما كان مهمّاً، لنربك عدوّنا وننشرَ قضيّتنا: إعلامياً، شعبياً، فنياً، سياسياً، ثقافياٍ، مالياً واقتصادياً، إلكترونياً، ... فوق الأرض وتحتها، وفي البحر وفي الجوّ، يجب أن تهتزّ شرعيته، وأن نستنزفه؛ لا يدري من أين يلاحقنا؟ ولا يتوقّع من أين سنلاحقه! سنخرج له من كلّ زاوية؛ من سطور الروايات، وفي قصائد الشعراء، ومن بين أوتار العازفين، وعبر ألحان المغنّين، وإبداع الفنّانين، ولوبيّات السياسيين، ومسيرات الشباب، وهاشتاغات المغرّدين، وهتافات الأحرار، وخطب الرموز، وزغاريد النساء، وميجانات الزجّالين.. وحتى من تحت بسطات البيّاعين! لا نتقوقع في قُطرٍ ولا نحصر أنفسنا في مجال، نتحدّث كلّ اللغات، نساء ورجالا، شيبا وشبّاناً .. لكنّ رايتنا واحدة!
نعم! رغم كلّ التنوّع إلاّ أنّها ذكرى جامعة، رايتها واحدة، لم تتعدّد ولم تتبدّل، هي تلك الراية التي رفعها أجدادنا منذ مئة عام وما زالت ترفرف في أيدي أحفادنا؛ فلا رايات حزبيّة ولا ألوان فصائليّة، إنّما هو اللون الوطني الموحَّد والموحِّد للكل
الفلسطيني الذي يظلّل الجميع ويجمعهم ويوحدهم ويرسم حُلمهم الواحد.
نُخبنا العفنة المستسلمة رسَمت لنا ولقضيّتنا صورةً بائسةً من التنازل والهَوان والتفريط، هي أبعد ما تكون عن حقيقة نبضنا وإصرارنا. لذلك سيسمع الكون كلّ الكون رسالتنا؛ العالم وأمّتنا وشعبنا وعدوّنا سيسمعون ويروْن منّا ما ظنّوا وهماً أنّنا نسينا لحنه أو لونه!
سيعرف العالم أنّ هناك نكبة عمرها سبعون سنة على الأقل، وأنّ هناك ملايين المنكوبين المشرّدين في آفاق الدّنيا، والمحاصرين خلف المعابر المغلقة والجُدُر العازلة، وعشرات الآلاف من الأسرى في السجون والزنازين الانفرادية، ومئات الآلاف من الشهداء الذين قضوا نحبهم ولمّا يروْن حلمهم! كلّ مظاهر هذه النّكبة إنسانياً وسياسياً وحقوقيّاً يجب أنْ تصل للعالم وتكون حاضرة بأوضح وأصدق صورة، وأنّ سبب كل ذلك هو الكيان الصهيوني غير الشرعي وإجراءاته القمعيّة.
سنقول لشعوب أمّتنا: شكراً لكم؛ لم تقصّروا يوماً في تبنّي ودعم قضيّتنا، رغم خذلان كثيرٍ من أنظمتكم لنا ولكم لم تتخلّوا يوماً، لكنّ دوركم لم ينتهِ لأن
النكبة لم تنته وآثارها مستمرّة في نكباتكم، ونكبات الأمة التي نراها تمتدّ على مساحة وطننا العربيّ كلّها هي نتيجة للنّكبة الكبرى، والعدوّ الأكبر هو "العدوّ الصهيوني" الذي تتفرّع منه كلّ العداوات، ويتجمّع حوله كلّ الأعداء، لا بدّ أن نحاربه معاً لننتصرَ معاً!
ستكون هذه الذكرى فرصة لشعبنا: لتعود إليه روح الأمل التي ورّثها السبعيني الجدّ للسبعينيّ الحفيد! فتستمرّ الدافعيّة للعمل والتضحية، وتؤكّد الأجيال تمسّكها بحقوقها كاملةً، مهما خيّل للساسة أنّها تخلّت أو نسيت!
أمّا عدوّنا؛ فسيسمع هتاف الأحفاد الذين خيّل إليه أنّهم نسوه: ما زلتَ عدونا، وسنبقى نقاتلك ونطاردك، ولا نعترف بك ولا بشرعيتك ولا احتلالك، فجرح نكبتنا ما زال طريّاً كأنّه الآن ينزِف، وحلم عودتنا ما زال نديّا لم جفّ! وراية ثورتنا ما زالت مشرعةً كأنّها الآن رُفِعَت! إنّنا نبدأ مسيرة التحرير والعودة ولسنا نحيي ذكرى النّكبة!