ما يحدث من جرائم وانتهاكات في السجون (السلخانات) المصريّة وأقبيّة التعذيب فيها شيء يفوق الخيال، ويندى لها جبين الإنسانية، ويؤسّس لمجتمعٍ مشوّه متخم بالحقد والكراهيّة.
طبعا ليس ما يجري في السجون فقط، وإنّما هو المظهر الأقبح والأفظع والأبشع والأكثر إيلاماً لهذه الثقافة؛ فالفنّ والإعلام والأمن والقضاء والسياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية... كلّ ذلك وغيره يُبَرمَج ويُبرمِج لأسوأ منظومة علاقات مجتمعية ووطنيّة يمكن أن توجد في بلد للأسف!
"لينا ربّ وليكم ربّ"! أصبحت عنواناً لهذه المنظومة؛ وبالتالي النتيجة علاقات صفريّة بين مواطني البلد الواحد حتى لو بالتصفيّة الجسديّة!
فجأةً يصرخ أحدهم منفعلاً شَزِراً، بينما نحن نتجاذب أطراف الأمل لمصر همساً يتناسب مع أدبه: لو رأيته سأقتله بيديّ هاتين!
صرخة مفجوع! لا تتناسب مع كبيرٍ مثله قدراً ووظيفةً ومكانةً وعلماً وديناً وخلقاً وسنّاً!
لكنّه قالها وهو بكامل وعيه واتزانه، وبملء "الوطن" ثقةً وقناعةً!! وهو الهادئ جدّاً لكأنّه يخشى على الهواء من حفيف حروفه، والمؤدّب جدّاً لدرجة يفري كبدَك أدبُه! الحامد الشاكر الصابر كأنّه صوفيٌّ متبتّلٌ صافٍ ليس له من الكَدَر نصيب!
لم يخطر ببالي ولم أتخيّل أبداً أنْ أراه منفعلاً وهو الباسمُ دوماً، عوضاً عن أنه يتحدّث عن "القَتْل"، نعم "القتل" للأسف. لماذا؟! لماذا كلّ هذا "الحقد"؟ ومن أين جاءتك هذه الثقافة والمفردات والنّفس الكارهة؟!
في سردٍ "روحيّ" وعلى استحياء طفوليّ يروي كرم الله عليه، وهو المُهجّر عن عائلته المشرّدة على مساحة الوطن المُخْتَطَف، وكيف أنّ الله أنقذه من السجن. ويسترسل مقارناً "العزّ" الذي يعيش فيه، بسوء السجن "وقرفه"؛ فهو الآن ينام – بفضل الله – آمناً مطمئنّاً مستريحاً ومستقلاًّ، بعيداً عن سطوة سجّانه ابن قريته، وعن آلام سياطه!
- على الأقل لا يدخل عليك أحدٌ عنوة، بل يطرق عليك الباب، ثمّ أنت وبإرادتك الكاملة تفتح له أو لا، إنّها نعمةٌ كبيرةٌ!
ثمّ يسترسل في همسه لي دامعاً (وكأنّه منوّم مغناطيسيّاً!!)، وهو في غمرة استذكار الشاكرِ لنعم الله وفضله عليه دون أقرانه سواء من بقي أسيراً أمْ مَنْ تاهت به دروب التشرّد:
- كانوا يحقّقون معنا ونحن معصوبو الأعين عُراة!
نعم عُراة، هؤلاء القامات الكبار الأطباء المهندسون عمداء الكليّات ورؤساء الجامعات الشِّياب عُراة! عراةٌ أمام أنذال سفهاء جبناء النّاقصون إلا من الدناءة، يستقوون بطغيان سلطتهم وجبروت حقدهم على كرام شعبهم وأهلهم.
كرامُ القوم وكباره الذين تفخر بهم بلادهم، هذا إن أبقى الفاسدون والفجرة بلداً أصلاً، يمشون عراة مغمّى على عيونهم! ألا شاهت وجوه الجبناء السفهاء، الذين ظهروا في غفلةٍ من زمن الحريّة والكرامة!
- يا ابني انتو بتعمِلو كده ليه؟ على الأقل خلّينا نستر العورة!
صرخ النّمرود الجبان، الذي لا يتقن نطق الحروف، كالهرّ المُسْتأسِد:
- إحنا ما عندناش "عورة" إلا حاجة واحدة: العينين بَسْ!
إيهٍ أيّها التافه عبدَ السفهاء!
هنا تتحشرج الدّمعة في عنق هَمْس الحامِد الشّاكر، ويعلو هدير الحرّ "الثائر"، فلا أكاد أصدّق أنّ هذا هو ذاك:
- هذا الخسيس أنا أعرفه، لو رأيته سأقتله بيديّ، أقسم بالله سأقتله!
و"يثور" المشهد كلّه، وتتعقّد "الحبكة"، ويسترسل "الكبير" في ثورته، ويخرج من "حالة" التبتّل ليعيش في مشهدٍ إجراميٍّ آخر .. بطله فتى (طفل) في السابعة عشرة من عمره، مكتئبٌ صامتٌ لا يتكلّم منذ أسبوع، تبدو عليه آثار النعمة والرفاه والأدب، حاول معه القوم – رفقاء الزنزانة - ممّن هم في جيل والده أن يتكلّم ويخرج من عزلته لكنهم لم يفلحوا.
لجأوا إلى" كبيرهم" المحترم بحكم ما له عليه من دالّة سابقة، وما يتمتّع به من مكانة بين "الكبار".
حاوره، تقرّب منه، تحبّب إليه، رفع معنوياته، وعظه وذكّره، حاول أنْ يثير الأمَل فيه، راوده عن صمته، إلى أن استلَ منه جرحه الغائر، وانفجر باكياً منتحباً تحت حرامه المقرف:
- اغتصبوني!!
بكيتُ .. وبكى "الكبير" بكاءًا مرّاً وهو يروى لي هذا المشهد الفاجعة، وكرّر بنفس القوّة وبنفس "الثورة":
- أعرفهم كلّهم، واللهِ لو رأيتهم لقتلتهم!
هذه المرّة كان غضبه وحقده يحكي ضمير "الجَمْع" لا المفرد! هكذا اتّسعت دائرة الرّغبة في الانتقام و"التصفير"، هكذا يصنع المجرمون السفلة نَفَسَ "الكراهية" حتى في نفوس العقلاء "الكبار"!
ماذا يريد هؤلاء السفهاء من اغتصاب فتى بريء نبيل؟ ما الجُرم الذي يمكن أن يكون قد اقترفه؟ وحتى لو كان اقترف أقبح الجرائم فأيّ بهيميّة تدفع هذه البهائم ليرتكبوا جريمتهم هذه؟
أيّ دوافع حيوانية كانوا يعيشونها حال ارتكاب كبيرتهم؟ أيّ حالة سُفلى حقيرة دنيئة كانو يتمثّلونها؟
لم يكتفوا بالاعتقال التعسّفي، ولا الإهانات، ولا التعذيب، ولا التشريد ... بل وصلت حيوانيّتهم إلى قعرٍ من الفجور لا يمكن تخيّله!
- أنا أعرف وعشت حاجات وقصص كتير أسوأ من كده!
نعم! هذا غيضٌ من فيض إجرام نخب الردّة الثوريّة!
يعيثون في مجتمعاتنا فساداً وبين شعوبنا إفساداً، لننشغل بالحقد والكراهية والتصفيات والمؤامرات والأحقاد، بينما هم ينهبون خيرات البلاد ويظلمون العباد!
ألا شاهت وجوه الرّويبضة الجبناء!
آخر الكلام:
عندما يهين لئامُ البلاد كرامَها فلا تسأل عن التطرّف والإرهاب مِنْ أين يأتي؟