تقف غزّة وحيدة صامدة في هذا الوقت العصيب الذي تشتدّ فيه ريح
الحصار. والحصار الذي يعصف من حول صمودها؛ يكاد يشترك فيه الجميع، حتى من يزعم حبّها، وحتى هؤلاء الذين بنوا قدرا من مجدهم أو سمعتهم بالتمسّح بها، وبأهلها الصامدين، وبمقاوميها الأبطال، فالخذلان حصار أيضا.
وحصار غزّة، لا يمكنك أن تجد فيه شيئا من مروءة الفرسان، لا في المحاصِرين المباشِرين ولا في مساعديهم من الخاذلين. فتجويع مليوني إنسان، فعل دنيء في كل الأحوال، والتخلّي عن هذه البقعة المضيئة بصمودها وحدها في وجه من يُفترض فيه أنّه عدوّ الأمّة، والمضيئة بوضعها قدميها في جدار الغطرسة الأمريكية الذي يستند إليه عدوّ الأمّة. خذلانها وهي في هذه الحال وحدها، لا يقل دناءة عن دناءة المحاصِرين.
تُعاقب غزّة اليوم، لأنّها - وبكل بساطة - تمسّكت بحقّها في سلاحها، ولأنّها قبضت بإرادتها هذه على حقّها هذا في واقع قاس من الاغتراب ومحاولات التحطيم وإفشاء الهزيمة، وظلّت بذلك المحاولة العنيدة الوحيدة للوقوف في وجه مشاريع خلق
الفلسطيني الجديد، وإعادة هندسة الوعي الفلسطيني، وخلط أولوياته، وتدجينه، وإخضاعه لحقائق التهويد الجارية على الأرض في الضفة الغربية والقدس بوحشية وقسوة، وحقائق التطبيع الجارية في واقع العرب بوقاحة ونذالة.
فلنتخيل زمن الفلسطينيين هذا دون غزّة، ولنتخيل زمن العرب والمسلمين هذا دون غزّة، كم هو مظلم، هكذا هو الأمر. تُعاقب غزّة على نورها، والمهزوم أسفل حقائق العدوّ لا يمكنه إلا أن يزداد عمى في مواجهة غزّة.. عمى في البصيرة، وعمى في الأخلاق، فيضيق بنور غزّة ذرعا، ويسعى بكل طاقته لطمسها.
وغزّة اليوم، بقعة لا بدّ من تطويعها لتمرير "
صفقة القرن"، ولا بدّ من تحطيم مقاومتها، أو استدراجها؛ للدخول في لحظة ترامب/ نتنياهو وعملائهما في بعض العواصم العربية. وغزّة تبدو للبعض "جدارا مائلا" يسهل اعتلاؤه لتقديم القرابين لترامب/ نتنياهو، أو لإعادة التموضع وحماية الرأس بالتخلّي عنها، أو ربما بالمساهمة في مشاريع الاستدراج لإخضاع المقاومة في قطاع غزّة. وكان يُفترض أن تصيب غزّةُ بعضَ من تمسّح بها وبمقاومتها بعدوى الصمود والإرادة، إلا أنّ هذه المفاهيم أكثر أصالة من أن تحضر بمجرّد التأثّر العابر!
بعد حرب الخليج الثانية، حُوصِرت منظمة التحرير اقتصاديّا، وكانت من قبل ذلك قد أُلقي بها في المنافي، بعيدا عن فلسطين ومحيطها، وابتُزّت بهذه العوامل للدخول في مشروع التسوية الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه اليوم من تمزيق الضفّة الغربية وتهويد القدس.
واليوم، لم يَعد مُستبعدا أن البعض يمارس دور الاستدراج، باستنساخ هذه التجربة إلى حدّ ما مع حماس، التي تتعرّض في هذه اللحظة لحصار اقتصاديّ غير مسبوق. ولأنّ مركز حضورها وقوّتها في الداخل، وتحديدا في غزّة، فإنّ ذلك يترافق مع حصار يتصاعد منذ سنوات.
آخر ما بلغه الحصار، هو تجفيف قطاع غزّة من المال، فرواتب موظفي السلطة تصل إلى البنوك منقوصة، وتنتهي في أيدي أصحابها معدومة بسبب القروض والديون، وحماس غير قادرة على دفع رواتب موظّفيها بسبب الحصار الذي تتعرّض له، وشحّ الأموال أدّى إلى كساد التجارة، وإغلاق العديد من المصالح التجارية والزراعية.
الحقيقة أن ما تحتاجه غزّة لدعم صمودها أقلّ بكثير مما تهدره بعض الدول، في مشاريع غريبة وغير مجدية، أو في مشتريات لمجرد استمالة الغربيين، بما في ذلك بعض من يقولون إنهم أصدقاء غزّة، ومن الواضح أن العلاقة بغزّة، وبحركة حماس، محكومة حتى الآن بالمسطرة الأمريكية لدى الجميع بلا استثناء، وهي مسطرة بالغة المهارة في ابتزاز العرب، وتحريكهم بما يصبّ في النهاية في المصلحة الإسرائيلية.
الغريب في ذلك، أن لا أحد، ممن يحسبون أنفسهم على الثورات العربية، يطال بالنقد الدول التي دعمت الثورات العربية، وباتت تُغيّر في سياساتها وتموضعاتها بما يناسب مصالحها وأزماتها، ولكنّ المقاومة في غزّة، وحدها التي تطالها سهام النقد والتجريح؛ حينما تحاول البحث عمّا يعزّز صمود شعبنا، ويبقي مقاومته على قيد الحياة والفعل والقدرة على مواجهة مشاريع التصفية، مع أنّها في النهاية مقاومة، ولا تملك ما تملكه تلك الدول من الخيارات الواسعة والبدائل العريضة، لكنّ عمى القلوب يطال حتى أولئك الذين يزعمون أنّهم أنصار الحقّ!