حتى الآن مازلت اتحاشى تذكر مشهد محمد الدرة رحمه الله وهو يختبيء خلف ذراعي أبيه وتلك الرصاصة تنجح في الوصول إليه. هذا المشهد هو أحد أشد المشاهد التي تنجح في صهر مشاعري واذابتها مهما تجلدت.
حين حاولت استحضار المشهد, كانت تفاصيله على مرمى حجر من بوابة ذاكرتي, لم تفقد سخونتها بعد ومازالت تلفح القلب بلهب لا يبرد. وجدت هذه الدموع تحاول كسر الجدار من جديد وكأنها لم تبرد منذ 15 عاماً أو يزيد.
كان مشهد استشهاد الدرة هو أحد المشاهد التي لا اظنها تفارق ذاكرة مئات الملايين من المسلمين حول العالم. أحداث كثيرة قد تستحق هي الأخرى أن تحظى بنفس القدر من التسجيل, فما أكثر شهداء فلسطين, لكن ما تبينته بالبحث هو أن المصور الفرنسي شارل اندرلان هو من وثق بعدسة كاميرته مشهد ارتقاء الدرة شهيداً.
هنا بدأ الأمر يتضح, فمشهد استشهاد أطفال, جرى ربما مئات المرات بعيداً عن الكاميرات, لكن كاميرا المصور الفرنسي كانت حاضرة تلك المرة والمشهد اُذيع وبعدما اُذيع المشهد لم يعد بإمكان كائن من كان أن يتجاهله.
ولقد عثرت اثناء بحثي عن المشهد على جزء من لقاء تليفزيوني مع المخلوع مبارك (وهو الذي لم يتورع بعدها بسنوات عن حصار غزة) يتحدث فيه عن استشهاد الدرة واصفاً إياه بمشهد يهز المشاعر. ثم تتابعت الاكتشافات, لقد تحدث الجميع عن المشهد متأثرين حتى ان القذافي زار والد الشهيد الدرة في المستشفى.
الطريف أنني اثناء البحث وجدت أن الانقلاب حاول استغلال حادثة الشهيد الدرة لتبييض وجه عسكري الانقلاب (الذي قال عنه سكرتير وزارة الدفاع الاسرائيلية في احد المؤتمرات أنه معجزة اسرائيل) عن طريق تصريح منسوب لوالد الشهيد وبغض النظر عن الظروف التي قيل فيها هذا التصريح وبغض النظر عن قناعة والد الشهيد بما قاله لصحيفة اليوم السابع الانقلابية, فإنك تدرك على الفور أن الشهيد الدرة كان حاضراً ولا يمكن تجاوزه وأن الانقلاب الذي يرغب في اعادة ضبط نفسه كلامياً على موجة فلسطين.
هنا تصبح اجابة السؤال الذي لم اوجهه بعد, واضحة !!
وهو لماذا لم تحظ مشاهد الشهيد ابراهيم الثريا الذي ارتقى على حدود غزة منذ ساعات بنفس التغطية التي حظي بها الشهيد الدرة مع تشابه الظروف ؟
والاجابة لأول وهلة قد تبدو بسيطة وربما كان وصول صور استشهاد الدرة إلى الإعلام الغربي اجابة كافية على السؤال. لكن الاجابة في نظري أكثر تعقيداً.
حين ارتقى الدرة شهيداً كانت تلك المرة الأولى التي يتخطى فيها مشهد شديد التأثير كهذا كل حواجز التعتيم الاعلامي الحكومي ليواجه أعين المشاهدين ليروا صورة لم يتعرفوها من قبل كسرت كل المانشيتات التقليدية في الصحف والجمل الافتتاحية في نشرات الأخبار. كسر المشهد ولأول مرة ذلك الحاجز الذي كانوا يبنونه.
لم يكن ممكنا ساعتها الا التماهي مع الحدث وكانت ما تزال هناك غلالة رقيقة من الحياء تفصل بين الأنظمة العربية وبين تلك الفجاجة التي يمارسونها الآن علناً.
المرحلة الآن هي مرحلة المكاشفة والانظمة تحاول محاصرة مسألة القدس لتصبح شأناً فلسطينياً فقط, ولذلك تجد تغطية مشهد استشهاد ابراهيم الثريا رحمه الله, باهتة خفيضة الصوت. فهم يريدون أن تكتفي الشعوب بتقليب صفحات جرائد تحتل فيها فلسطين مجرد خبر من بين عشرات الأخبار. يريدون أن يقرأ الناس عنوان يتحدث عن استشهاد شاب فلسطيني, فيمصمصون الشفاة ثم لا شيء بعدها. يستخدمون الآن حبراً باهتاً لكتابة أخبار فلسطين, او بالأحرى لمحوها من وعي الشعوب.