مثلت الاعتقالات الأخيرة التي عرفتها المملكة العربية السعودية لعلماء أجلاء على رأسهم الداعية سلمان العودة حركة مفصلية في تاريخ المؤسستين الدينية والسياسية في المملكة. الاعتقالات تمت بشكل سريع وعشوائي وعلى نطاق واسع وبنحو لم يكن قابلا للتصديق في البداية نظرا للشعبية الكبيرة التي يحظى بها كثير منهم عند الرأي العام العربي والإسلامي عموما.
كل هذه الأحداث تتنزل حسب هذا التحليل في إطار تداعيات الربيع العربي وثوراته المباركة أي أن انكشاف ما يسمى برجال الدين أو العلماء أو الشيوخ ودورهم الخطير في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الأمة يعود الفضل فيه إلى الزلزال التونسي الكبير في شتاء 2010. ولابد من الإشارة هنا إلى أن مصطلح "رجل الدين" لا ينسجم مع أصول الدين الإسلامي الذي لا يعترف ولا يقر بالوسائط البشرية بين العبد وربه باعتبار التوحيد جوهرا وأصلا أصيلا من أصول العقيدة.
إن التحالف القديم بين الديني والسياسي لا يخفى في أقدم وأهم الدول العربية على الإطلاق خاصة وأنها تحوي مكة والمدينة باعتبارهما أهم الأماكن المقدسة عند عموم المسلمين إضافة إلى مدينة القدس. بل إن المؤسسة الدينية مثلت لزمن طويل رافدا أساسيا من روافد المؤسسة السياسية التي امدتها بالشرعية وبالقبول والرضى في الداخل والخارج. هذا التحالف بين الديني والسياسي لا يقتصر على السعودية بل نجده في دول عربية أخرى تعمل فيها البنية السياسية على توظيف المؤسسة الدينية بشكل مباشر مثل مؤسسة الأزهر في مصر حيث دخلت المؤسسة بشكل مباشر على خط الانقلاب العسكري وكذلك الكنيسة القبطية التي تحولت بوقا من أبواق النظام هناك.
من ناحية أخرى كشفت تصريحات رجال دين آخرين عن انحراف خطير في المواقف والمبادئ مثل التصريحات الأخيرة لشيخ الحرم المكي "عبد الرحمن السديس" وقد وصف فيها الولايات المتحدة بأنها من كبار رعاة السلام في العالم. وقبله خاض شيوخ الأزهر الشريف في التمكين للانقلاب بشكل وصل فيه تقديس الجنرال إلى مراتب النبوّة والقداسة.
الثابت الأكيد هو الدور الكبير الذي يلعبه المكون الديني في المنطقة العربية صار أجلى وأوضح مما كان عليه قبل انفجار الثورات وتداعياتها. هذا لا يعني أن هذا الدور كان غائبا أو كان نسبيا في كامل دول المنطقة بل يعني أنه كان دورا خافيا لا يظهر إلى السطح بشكل علني ومباشر كما رأينا خلال السنوات الأخيرة.
صحيح أن المكون الديني مكون مركزي في البناء الاجتماعي للدول عامة وللدول العربية المسلمة بشكل خاص لكن الخطر لا يكمن هنا في هذا الدور وفي طبيعته بل يكمن في التوظيف السياسي لهذا المكون في الاتجاهين أي من خلال قمع الصوت الديني المعارض من ناحية وتشجيع الصوت الديني المساند للنظام الحاكم من ناحية أخرى. هذا الخطر ناجم عن تداخل المستويين السياسي والديني بشكل شبه كلي في المنطقة العربية وهو تداخل يتميز بسيطرة الأول على الثاني وتوجيهه أي سيطرة القرار السياسي على الخطاب الديني بشكل يكاد يكون مطلقا.
هاته السيطرة والتوجيه والتوظيف تتجلى خاصة في قبول الخطاب الديني الرسمي بمناقضة النص الديني نفسه من أجل تطويعه مع السياق السياسي العام. فقبول شيخ الأزهر وشيخ الحرم المكي بالخوض في غمار السياسة بما يناقض أصول الدين كالدعوة بالصلاح للحاكم الظالم وتزيين صورة مجرمي الحرب في عيون المسلمين هي واحدة من أجلى أشكال التوظيف السياسي للدين.
لقد عصفت رياح الربيع العربي بكثير من المقولات والمفاهيم والنجوم والمشاهير بشكل لم تعرفه المنطقة من قبل على الإطلاق وهو ما دفع كثيرين إلى القول بأن أعظم مكاسب ربيع العرب هي هذا الكشف العظيم لكامل المشهد السياسي والاجتماعي والحضاري بشكل عام. اليوم تتداعى الأقنعة وتسقط الواجهات في شكل مريع يبشر بنهاية مرحلة من مراحل الوعي وبداية مرحلة جديدة سيشمل التغيير فيها المقولات الدينية ودورها في المشهد السياسي.
المسألة لا تتعلق بشيخ هنا وعالم هناك بقدر ما تتعلق بمنظومة رئيسية من منظومات الدولة والمجتمع شهدت هي الأخرى زلزالا كبيرا بفعل ربيع الشعوب. إن دور الجماعات الاسلامية السياسية منها والدعوية قد لعبت دورا مركزيا في تحديد المآلات التي آلت إليها ثورات الشعوب بدءا بدور الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والمجموعات الجهادية وبقية الفرق من مداخلة وصوفية وغيرهما. بل إن مصطلح "الخريف الإسلامي" الذي انتشر خلال أوج الثورات المضادة يعكس طبيعة الدور الحاسم الذي كان للمنظومات والمقولات الدينية.
لا يقتصر فضل ربيع العرب على الكشف العظيم الذي شمل كل الأنساق والمقولات لكنه يطال رموزا كثيرة سقطت كأوراق الخريف وهو السقوط الذي سيصنع حتما ربيعا جديدا يقوم على قراءة واضحة للأسس التي تقوم عليها الأمة وعلى رأسها النص الديني وخطابه.