ربما أراد الرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما شكلا من أشكال حسن الخاتمة - في تقديره - فأصدر قبيل مغادرته كرسي الرئاسة بأيام، نصف قرار برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان "إذا" أثبت السودان أنه حسن السيرة والسلوك، على مدى ستة أشهر تنتهي في 12 يوليو/ تموز (المنصرم)، وانصرم يوليو/ تموز وانصرم أوباما، وجاء الرئيس التعيس ترامب، وقال للحكومة السودانية إنها ستظل تحت المراقبة لثلاثة أشهر أخرى تنتهي في 12 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
عندما طرح أوباما وعده المشروط، والذي لم يكن يملك من أمر تنفيذه شيئا، تعامل الرسميون السودانيون معه وكأنه وعد بليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وصاحوا: صبرنا ونُلنا، ووعدوا الشعب السوداني بالمنِّ والسلوى، وبأنه سيتم تزويد البيوت – عبر خطوط الأنابيب بالكولا والحلوى، وكان حلم الرأسماليين الطفيليين الحصول على تراخيص لفتح فروع لدجاج كنتاكي، وآيسكريم باسكن روبنز، وسندويتشات ماكدونالدس.
ولما مدد ترامب فترة حسن السيرة والسلوك صاحت الحكومة السودانية: إنني أعطيت ما استبقيت شيئا / آه من قيدك أدمى معصمي! وكانت محقة في ما قالته، فقد فعلت كل ما هو ممكن للتزلف للولايات المتحدة، وحسبت ذلك كافيا للفوز برضاها، باعتبار ان ذلك الرضا يتيح للسودان التعامل مع بقية دول العالم في مجالات التجارة والصيرفة
العجيب في الأمر، أنه حتى بلدياتنا باراك بن حسين آل أوباما، قالها صريحة بأن رفع العقوبات، لا يعني رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن الحكومة السودانية تؤمن بأن العافية "درجات" أي تأتي متدرجة، وهي موقنة بأنه ما من عاقل في الإدارة الأمريكية سيضع السودان وإيران في قائمة واحدة.
حتى إسرائيل التي ظل السودان يزعم، كما بقية الدول العربية والمستعربة، أنه في حالة حرب معها، هللت صحافتها لقرار السودان بفك الارتباط بإيران بإغلاق "المراكز الثقافية" الإيرانية، التي كانت منتشرة في مختلف مدن السودان، لأنها، وكما قال مسؤولون حكوميون رفيعو المناصب، كانت تنشط في نشر التشيُّع (في هذا يقول المصريون: بعد سنة وتلات أشهر جات المعزِّية تشخر، فقد ظلت تلك المراكز قائمة طوال نحو ربع قرن، فهل أدركت الحكومة السودانية فجأة أنها لتحويل مواطنيها السنة الى شيعة؟ ما يصير).
كان تجفيف العلاقات مع إيران أيضا بعد طول عُشْرة، رسالة أيضا من الحكومة السودانية لواشنطن، بمعنى "نعادي من تعاديه أنت، وطلباتك أوامر يا جميل"، وفجأة قام نائب رئيس الوزراء السوداني، ووزير الاستثمار السيد مبارك الفاضل المهدي، بتصعيد وتيرة الغزل والتزلف غير المباشرين لواشنطن، بالتصريح خلال لقاء تلفزيوني في أغسطس/ آب المنصرم، بأن التطبيع مع إسرائيل أمر لا غبار عليه، متعللا بأن الكثير من الدول العربية تمارس التطبيع العلني وشبه العلني مع إسرائيل.
والجزئية الأخيرة من كلام الرجل لا تخلو من صحة، ولكنه زاد العيار بترديد الموال السخيف، الذي يتردد على ألسنة كل من يود أن يتنصل حتى من مساندة حق الفلسطينيين - باللسان فقط - في العيش في دولتهم المستقلة في الضفة الأخرى من الخط "الأخطر"، ثم وصف حركة حماس بأنها صنيعة إسرائيلية كترياق مضاد لحركة فتح.
ومكمن السخف والخطل هنا هو أن حركة فتح، لم تعد خصما لإسرائيل أو حتى مصدر إزعاج لها لأكثر من ربع قرن، ومنذ اعتقال مروان البرغوثي لم تهبش إسرائيل أو تخمش قياديا فتحاويا، ولكنها اغتالت الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي وأحمد الجعبري ونزار ريان وزوجاته وعياله وغيرهم.
ولا يمكن أن تكون إسرائيل من الغباء بحيث تظل تستهدف "عملاءها" الحمساويين في إطار سياسية معلنة، تحمل اسم القتل المستهدف targeted assassination، سمع بها حتى طلاب المستوى الأول في كليات الإعلام، كما سمعوا وشاهدوا البث الحي لعمليات قصف برمائي وجوي لغزة وساكنيها "من طرف" لا لشيء سوى أن أهل غزة يعيشون في منطقة تحكمها حماس.
ومبارك الفاضل الذي نادى أو رحب بالتطبيع مع إسرائيل، ليس عضوا في الحزب الذي يحكم السودان منذ عام 1989، بل أُهدي إليه المنصب كجزء من سيناريو فيلم هندي، كان المشهد الأول منه، ما أسمته الحكومة السودانية بالحوار الوطني، الذي شاركت فيه تنظيمات تم طبخها على عجل بالمايكروويف، بينما كان مشهد الختام تشكيل حكومة ضمت ممثلين لبعض تلك التنظيمات الهلامية.
وأرد الوزير التطبيعي أن يكون كاثوليكيا أكثر من البابا، وحسب أنه وبالتغزل بإسرائيل يساهم في الجهد المبذول لفوز الحكومة السودانية برضاء ماما أميركا، بافتراض أن أميركا تحب كل من يحب إسرائيل، وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن أميركا ليست بحاجة الى تأكيد من أي جهة عربية بأن إسرائيل ستظل بخير طالما الطاقم الحاكم في العالم العربي "سيم، سيم".
حتى في الحب بين الرجل والمرأة، إذا كان طرف يمارس التدلُّل والتَّمنُّع، وزاد الطرف الآخر جرعة "التَّذَلُّل والتزلف"، فإنه وبذلك يجعل الطرف الأول يزداد دلالا واستعلاء، وواشنطن حسناء بنفسها معجبة، وتستهدي بأغنية لطيفة التونسية "حواليّ كتير"، أي ألف من يتمناني، ولا يستهويها البكش، بل تظل تتدلل حتى تلبس من يتهافت عليها خاتما في إصبعها.