لن نخرج تحليليا خلال العقود القادمة عن تداعيات ثورات الشعوب؛ لأنها أبرز أحداث المنطقة خلال التاريخ العربي الإسلامي الحديث، وبما أنّ الوعي العربي والفكر الناسل عنه سيبقى طويلا محكوما بالزلزال الكبير الذي ضرب الرقعة العربية ولا يزال.
الكشف والتعرية ورفع الأقنعة عن مكونات المشهد، وعن طبيعة المكونات ودورها ووظيفتها، هي أهم مكاسب الربيع وأهم إنجازاته على الإطلاق. فبتعبير أدق، يمثل كشف الكثير من الحقائق التي ما كنا نتصورها كذلك قبل انفجار الثورات الشعبية أغلى وأثمن ما صنعته التحركات الشعبية التي بدأت في تونس شتاء 2010.
فالنظام الاستبدادي العربي، خاصة في شكله العسكري الجمهوري، كان الخاسر الأكبر من هذه الثورات، رغم نجاح الانقلاب العسكري في مصر، ورغم صمود النظام الطائفي في سوريا، ورغم استبسال المشروع الانقلابي في ليبيا.
إن سقوط نظام بن علي في تونس، ونظام القذافي في ليبيا، ونظام مبارك في مصر، بشكل سريع ومباغت، قد كشف هشاشة هذه الأنظمة وهشاشة البنية التي يقوم عليها، وهي في أغلبها بنية أمنية وعسكرية قمعية لا تفهم إلا لغة القوة والتسلط والقمع. فرغم القصف الإعلامي اليومي للنظام الاستبدادي العربي، ورغم كل الحملات التي تهدف إلى تقديمه في صورة النظام المقاوم والممانع والحامي والباني والراعي.. وكل الأكاذيب التي درج عليها إعلام الاستبداد، فإن رياح الربيع العربي كشفت أنه فعلا أوهن من بيت العنكبوت.
لكن السؤال الذي يبقى قائما هو التالي: لماذا صمدت أنظمة استبدادية عربية دون غيرها من الأنظمة؟ ولماذا لم يشمل ربيع العرب كل الدول العربية، بما فيها الأنظمة الوراثية؟
تستند الإجابة عن هذا السؤال إلى معطيات استقرائية واستدلالية في آن، ولا تقوم على غير المعطيات الثابتة التي أفرزتها موجات الاحتجاجات الشعبية، وهي إجابة تتأسس على العناصر التالية:
العنصر الأول هو عنصر المفاجأة الذي شمل الموجة الثورية الأولى وغطت تونس وليبيا ومصر. العنصر الثاني هو عنصر الثروة ومنسوب العدالة الاجتماعية في الدولة، ويشمل هذا العنصر خاصة دول نظام الحكم الوراثي. العنصر الثالث هو عنصر التركيبة الداخلية للنسيج الاجتماعي والسياسي في الدولة.
لقد كان عنصر المفاجأة حاسما خلال الثورة التونسية التي لم تمهل الطاغية بن علي أكثر من أيام معدودة قبل أن يفر هاربا خارج حدود الوطن وهو كذلك العنصر الذي أطاح بنظام مبارك وكان حاسما في حال الثورة الليبية بعد أن حوّلها الطاغية القذافي إلى ثورة مسلحة رغما عن أهلها.
إن صمود دول النظام الوراثي في الحكم يعود حسب هذه القراءة إلى ثلاثة أسباب رئيسية أما الأول فطبيعة التركيبة السياسية للنظام الوراثي والتي تختلف كلية عن النظام العسكري الجمهوري والثاني هو حجم الثروة التي تتمتع بها الأنظمة الوراثية في الخليج خاصة ثم ارتفاع منسوب العدالة الاجتماعية بين السكان مقارنة بالنماذج السياسية الأخرى.
لكن الأنظمة العسكرية الجمهورية تختلف أيضا في طبيعة تركيبتها الاجتماعية، مثلما رأينا ذلك في سوريا؛ حيث لعب العنصر الطائفي دورا حاسما في صمود النظام، رغم كل الهزائم المتتالية التي مني بها. فما كان النظام ليصمد كل هذه المدة لولا طبيعة النظام الأمنية والعسكرية المؤسسة على استبداد طائفة معينة بالوظائف المحورية في الدولة وفي قطاعاتها الحساسة.
لكن، رغم كل ما سبق، فإن سيّد العناصر الذي يكشف تأبد الاستبداد في بلاد العرب أو نجاح الكيانات العميقة في استعادة الدولة والانقلاب على الثورات في أكثر من دولة عربية، إنما يتمثل في الإسناد الخارجي لمنظومة الاستبداد.
الاستبداد العربي مُستطيع بغيره، وإلا فإنه لا يستطيع الصمود مهما كان جبروته وظلمه. إن التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي الذي قال دون تردد إنه "لولا تدخل روسيا عسكريا في سوريا لسقطت دمشق خلال أسبوعين". فلا المليشيات الإيرانية ولا مليشيات حزب الله ولا قوات النظام نفسه كانت تستطيع إنقاذه من شعبه، بل تدخلت لفعل ذلك امبراطورية كبرى بحجم الاتحاد السوفيتي سابقا أو روسيا اليوم.
هكذا يبدو النظام القمعي العربي عاجزا عن مواجهة شعبه ومطالبه بالحرية والعدالة وتطبيق القانون، دون التعويل على القوى الخارجية التي نصّبته أولا، ثم منعته من السقوط ثانيا، ولو كان ذلك على حساب أنهار من دماء أبناء شعبه. لكن ارتهان الطاغية العربي للخارج يجعله دائما تحت رحمة هذا الخارج، مهما كان نوعه سياسيا أو ماليا أو عقائديا.. لأنه عندما تحين ساعة الخلاص منه، فإن الخارج نفسه لن يتوانى عن التخلص من العبء الثقيل، مثلما حدث للقذافي أو لبن علي.
إن كل نظام سياسي عربي -وراثيا كان أو جمهوريا- لا يمكنه أن يدوم مهما بالغ في القمع والتسلط؛ لأن الضامن الوحيد لبقاء الحكم هو العدل، كما عبر عن ذلك ابن خلدون في مقالته الأشهر. إن العدالة الاجتماعية، وحسن توزيع الثروة، واحترام كرامة الإنسان في وطنه، تساوي ألف مرّة التعويل على أقوى القوى الدولية.