لا يتردد الساسة والإعلاميون الإيرانيون أبدا في شيطنة حزب البعث العربي الاشتراكي منذ وصول الخميني إلى السلطة عام ألف وتسعمئة وتسعة وسبعين، وقلما يظهر مسؤول إيراني على شاشات التلفزيون إلا ويشن هجمات ساحقة ماحقة ضد حزب البعث وشعاراته، لا بل يعتبره الإيرانيون حزبا فاشيا قومجيا عنصريا، لا بد من اجتثاثه من على وجه الأرض البارحة قبل اليوم. باختصار شديد، فإن الأفكار البعثية العروبية القومية بالنسبة للإيرانيين رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه واجتثوه حيثما شئتم. لهذا السبب وضع الخميني نصب عينيه منذ عودته من فرنسا إلى إيران القضاء على حزب البعث الحاكم في العراق بقيادة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لأن الإيرانيين يعتبرون الفكر القومي العربي خطيرا جدا على إيران ومشاريعها وعقائدها السياسية والقومية والفكرية. لا بل إن إيران كانت وما زالت ترى في القومية العربية عدوا طبيعيا للقومية الفارسية، فالقوميون العرب طرحوا شعارا هو توحيد العرب من المحيط إلى الخليج، مما يشكل هذا الشعار خطرا وجوديا على إيران ومخططاتها في المنطقة لو تحقق. ولا ننسى أيضا أن أي مشروعين قوميين في المنطقة سيصطدمان طال الزمن أو قصر، فمن عادة العصبيات القومية تاريخيا أن تعادي وتكيد بعضها لبعض.
لا أدري كيف يمكن أن يشرح لنا المسؤولون الإيرانيون الذين لا يملون من الهجوم على حزب البعث العراقي ووصمه بأقذع الأوصاف، لا أدري كيف يمكن أن يبرروا لنا تحالف إيران الاستراتيجي مع حزب البعث العربي الاشتراكي بفرعه السوري، مع العلم أن الأب الروحي للبعث السوري والعراقي هو ميشيل عفلق. وإذا كان هناك خلاف ذات يوم بين النظامين العراقي السابق والسوري الحالي، فلم يكن خلافا عقائديا، بل كان خلافا سياسيا. بعبارة أخرى، فإن البعث بعث، أكان في العراق أو في سوريا أو أي مكان آخر من العالم العربي اعتنق الأفكار البعثية وآمن بها.
ألا يفضح التحالف الإيراني مع النظام السوري حزب البعث السوري؟ فلو كان البعث السوري فعلا بعثيا كما كان البعث العراقي، لما فكرت إيران أبدا في التحالف مع النظام السوري وعقد شراكة استراتيجية قوية تمتد منذ عقود وعقود، ولما استمر ذلك التحالف، وترسخ في منطقة تعوم على بؤر من الصراعات. وللعلم، فإن أقوى حلف صمد في المنطقة هو الحلف الإيراني والسوري البعثي، بدليل أن إيران تدخلت بكل ما تملك من قوة لإنقاذ نظام الأسد عندما أوشك على السقوط، بسبب الثورة الشعبية عليه منذ عام ألفين وأحد عشر. ولا يخفي الإيرانيون دورهم الكبير في حماية النظام السوري. وقد سمعنا مسؤولين إيرانيين يؤكدون أنه لولا إيران لسقط الأسد منذ الشهور الأولى للثورة. وقد اعتبر أحد المسؤولين الإيرانيين سوريا ولاية إيرانية، لا بل إن الإعلام الإيراني كشف مؤخرا بأن الرئيس السوري جندي في خدمة المرشد الأعلى الإيراني خامنئي. فما سر هذا العشق والغرام بين البعث السوري والفكر الشيعي، وما سر ذلك العداء المستحكم بين إيران والبعث العراقي؟
كما أسلفنا، فإن اختلاف الموقف الإيراني من البعثين السوري والعراقي، يكشف أن إيران لم تخش يوما من البعث السوري، لأنه ربما كان بعثا زائفا لا يشكل عليها وعلى مشاريعها في المنطقة أي خطر، أما البعث العراقي، حسب مؤيديه، فمن الواضح أنه كان يؤمن فعلا بمنطلقات البعث الحقيقية التي تطمح فعليا إلى توحيد العرب، وبناء قوة عربية متحدة ووازنة تتصدى للقوى الطامعة في المنطقة العربية وعلى رأسها إيران، لهذا عمل الخميني منذ مجيئه إلى السلطة على القضاء على البعث العراقي، وخاض من أجل ذلك حربا ضروسا مع صدام حسين اضطر بعد ثماني سنوات إلى تجرع السم والقبول بوقف الحرب بعد أن تكبد خسائر فادحة على أيدي البعث العراقي. ومن اللافت على مدى الحرب الإيرانية العراقية أن البعث السوري المفترض أنه شقيق البعث العراقي، وقف مع إيران ضد العراق البعثي، مما يؤكد أنه، كما يرى منتقدوه، لم يحمل من المنطلقات الحزبية البعثية إلا قشورها، بدليل أنه تحالف مع إيران، ناهيك عن أن إيران عاملته بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي تعاملت بها مع البعث العراقي، فالأول حليف والثاني عدو مبين.
البعض يرى أن السبب الرئيسي في تحالف إيران مع البعث السوري ومعاداة البعث العراقي، أن الرئيس العراقي كان بعثيا سنيا يمثل السواد الأعظم من العرب السنة، بينما البعث السوري بقيادة آل الأسد كان بعثا طائفيا رغم تشدقه بالقومية العربية، بدليل أنه كان دائما يرفع شعارات وحدوية قومية، بينما يحكم سوريا ذاتها على أساس طائفي. ولعل أحد أهم أسباب الثورة السورية التخلص من الحكم الطائفي الذي اضطهد الأكثرية السنية لعقود وعقود، لهذا وجدت فيه إيران حليفا طبيعيا ضد العرب والسنة. بعبارة أخرى، فإن التحالف الإيراني السوري قام أصلاً على عقيدة مشتركة وهي معاداة العرب والمسلمين السنة. صحيح أن المذهب العلوي لا يتطابق تماما مع المذهب الاثني عشري الشيعي الإيراني، إلا أن هناك قواسم عقدية مشتركة بين النظامين السوري والإيراني، خاصة أنهم يسمون العلويين بالعلويين نسبة للإمام علي كرم الله وجهه، الذي يذكره الشيعة في صلاتهم كولي الله بدل محمد رسول الله.
وإذا كان الإيرانيون ينكرون التحالف مع حزب البعث السوري على أساس طائفي أو مذهبي، فليقولوا لنا لماذا يعتبرون البعث العراقي حراما، والبعث السوري حلالا، مع أن الحزبين ينهلان من منبع فكري وحزبي وعقائدي واحد؟