عام 1957م، أصدر الصحفي الهندي كارنجيا، كتابا بعنوان "خنجر
إسرائيل"، الذي عُرف بوثيقة كارنجيا، كان الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر قد حصل عليها، ثم سلمها للصحافي الهندي الذي صنف ذلك الكتاب.
تضمن الكتاب جملة من المخططات الصهيونية في المنطقة
العربية بالأرقام والوثائق، كان أبرزها تقسيم المقسم، أي النسخة الثانية من
سايكس بيكو، فكيف لم يتنبه العرب لخطورة تلك الوثيقة؟ هل لأن العرب كما قال موشي ديان: لا يقرأون؟
قطعا لا يعني ديان أن العرب لن يطلعوا عليها، وإنما يُعّبر عن حقيقة برهن عليها الواقع، تجعل العلم بالشيء كعدمه، وهو أن الدول العربية في شُغل عظيم عن التعاطي الجاد مع تلك الوثائق، فالفجوة عميقة بين الشعوب وحكامهم، والخلافات مستعرة بين زعماء الدول، وسوق النخاسة العالمي لا ينفض، حيث تزدهر فيه تجارة العملاء والمأجورين الذين يبيعون أوطانهم ودينهم وأمتهم من أجل العروش.
لم يقف حكام العرب أمام تلك المخططات التي تُترجم إلى واقع عملي عاما بعد عام، فيظن الواحد منهم أنه بالارتماء في أحضان البيت الأبيض أو الكريملين، أنه قد آوى إلى ركن شديد، غير عابئ بمصير الثيران يوم أُكِل الثور الأبيض.
عام 1982، نشرت مجلة كيفونيم التي تُصدرها المنظمة الصهيونية العالمية، وثيقة تستعرض الاستراتيجية الإسرائيلية لتمزيق الدول العربية إلى دويلات صغيرة على أسس عرقية ودينية، وجاء في تلك الوثيقة: "إن تفكيك سورية والعراق في وقت لاحق إلى أقاليم ذات طابع قومي وديني مستقل هو هدف الدولة الصهيونية الأسمى في الجبهة الشرقية على المدى القصير، وسوف تتفتت سورية تبعاً لتركيبها العرقي والطائفي إلى دويلات عدة".
ولكن يستمر الصمت العربي الإسلامي، على طريقة "أحْيِني اليوم، وأمتني غدا".
وبعد أن قُسمت السودان، جرى العمل على مشروعات التقسيم على قدم وساق، بتنسيق دولي، في عدة دول عربية، وبخاصة في
العراق وسوريا.
في سوريا، عمدت أمريكا إلى إطالة أمد الحرب لتدمير البنى التحتية لسوريا، وسمحت لإيران بالتدخل بقوة، ونسقت مع الروس للدخول على الخط، بحيث يبقى الحل الأوحد بعد هذا الدمار والخراب هو تقسيم سوريا على حساب الأغلبية السنية، حيث تكون هناك دولة كردية يتوزع ولاؤها بين أمريكا وروسيا وتمثل تهديدا لتركيا، ودولة علوية موالية لإيران، ودولة سنية يحكمها نظام علماني موالٍ لأمريكا.
وفي العراق بدت مؤامرة التغيير الديموغرافي وتقسيم العراق واضحة، وأصبح التقسيم حديث الساعة بين الساسة الأمريكان بما يدل على الشروع فيه ودخوله حيز التنفيذ، ومن ثم تدعم أمريكا الحكومة العراقية الطائفية التي جعلت العراق محافظة إيرانية أخرى، ومعها المليشيات الموالية لطهران، التي تمثل عصب القوات العراقية.
وتدعم أمريكا كذلك الأكراد في العراق، وجعلت منها قوة أساسية في معركة الموصل ضد تنظيم الدولة، بما يدعم فكرة التقسيم وإقامة دولة كردية مستقلة.
تقسيم العراق لا يفارق العقلية الأمريكية، وأبرز من دعا إليه هنري كسينجر، الذي تحدث عن تقسيم العراق إلى دولة كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، وسنية في الوسط، والأمر ذاته ذهب إليه السيناتور الأمريكي جوزيف بايدن، وغيرهما من الرموز السياسية والعسكرية بأمريكا.
غير أنه برزت أطروحة أخرى بأمريكا تقضي بتقسيم العراق إلى شيعية وكردية فقط، ومن ذلك ما صرح به سابقا رئيس الأركان جوزيف دنفور، حيث قال "العراق يمكن تقسيمه لدولتين فقط: للشيعة والأكراد"، مشيرا إلى عدم إمكانية قيام دولة للسنة إن تم تقسيم العراق، وبرر دنفور ذلك بقوله إن السنة لا يملكون الموارد الكافية لتشكيل دولة، وأوضح أن الشيعة والأكراد أكثر تجهيزا بكثير من السنة إن كانت لهم دول مستقلة.
الحضور القوي والبارز للقوات الموالية لإيران والقوات الكردية في معركة الموصل مع تعمد تغييب الحضور السني (إقصاء العشائر السنية والإصرار على استبعاد تركيا) ربما يخدم هذه الأطروحة ويدعمها.
تجري هذه المؤامرة على ظهر مطية تسمى داعش، التي صنعتها أمريكا وإيران، التي تستخدم كستائر الدخان في تدمير الشعوب المسلمة، ومهمتها تهيئة المظلة المناسبة لإلحاق الدمار والخراب في البلاد الإسلامية.
التقسيم دخل حيز التنفيذ، وقطعا سيأتي على حساب المكون السني الذي لا يجد راعيا، ولا يجد من ينوب عنه بعد أن تركناه وحيدا، وأعطينا الفرصة لتنظيم داعش لأن ينوب عن ذلك المكون.
سيكون من الخطأ البيّن توصيف الحرب على أنها موجهة ضد المسلمين بصفة عامة، فهي تستهدف بلا شك المكون السني، الذي صار فريسة للتحالفات الدولية والإقليمية، فإلى متى ينأى حكام العرب عن التحدث باسم المسلمين السنة؟
إلى متى ستظل فزاعة الطائفية سدا منيعا يحول بيننا وبين نصرة أهل السنة والدفاع عن حقوقهم، والتي سوف تُلتهم التهاما إذا ما تم مشروع التقسيم.
مؤخرا، كتب الأستاذ جمال خاشقجي مقالا بعنوان "دافع عن السنة ولا تبالِ"، ينادي فيه برفع راية أهل السنة والدفاع عن حقوقهم، ونزع ربقة الخوف من الاتهام بالطائفية، في وقت كشفت فيه إيران وحلفاؤها عن وجهها الطائفي في سوريا والعراق، هذا الطرح أنشأتُ على إثره (هاشتاج) يحمل ذات العنوان، وتمنيت لو تبنَّته الأقلام والنخب، فإننا في كل الأحوال متهمون بأننا أصحاب نَفس طائفي.
سنكون طائفيين إذا قمنا كغيرنا بالقتل والقمع على الهوية، سنكون طائفيين إذا لم نقبل التعايش السلمي مع الآخرين، أما التمايز فليس مرادفا للطائفية.
سايكس بيكو 2 تقرع الأبواب، وسيدفع المسلمون السنة الثمن باهظا، الجميع سيخرج رابحا عداهم، فإلى متى سيبقى حكام الأمة نائمين حيال مؤامرات التقسيم؟