قضايا وآراء

صداع القطيعة مع الاستبداد في تونس.. بين مأزق العقل السياسي ومزايا التوافق

مجول بن علي
1300x600
1300x600
عندما تصاعدت وتيرة الأحداث بعد تاريخ 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 في بلدات تونسية كثيرة لم يكن أحد يتوقع أن يكون مآلها ما آلت إليه، رغم أن الانفجار كان منتظرا بسبب الضغط السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتى الثقافي والإعلامي. 

ولم يكن العقل السياسي المراوح بين المقاومة والإصلاح والمعاضدة متطلعا بشكل كبير على الحدث، ولا حتى متابعا لتموجاته المتسارعة، أما اليوم وبعد أكثر من خمس سنوات فيمكن وضع الحركة تحت المجهر وتفكيكها بحثا عن قوانينها الكثيرة وعن بواعثها وطبيعة انتظاراتها على وجه الخصوص، وهنا قد يكمن العجز الثاني والأخطر الذي أصاب العقل السياسي بالشلل.

طيلة 60 سنة أو يزيد، لم يكن عقل النخب ولا حتى الشعوب، يفصل في تونس بين الدولة والسلطة السياسية، بحكم طبيعة النظام السياسي الرئاسي الذي كان متواجدا، وبحكم مركزية "الحاكم" في أذهان الناس. 

ومن هذا المدخل يمكن فهم أزمة ما بعد الثورات العربية في أكثر من دولة بشكل كبير وواضح، من خلال مفهوم الثورة وآليات وطرق تحويلها إلى ثروة، بعيدا عن المكاسب والمطالب السكتارية أو الفئوية أو حتى الطبقية الضيقة التي تحولها إلى منتج لدكتاتورية مضادة للدكتاتورية التي قامت ضدها الثورة بشكل آخر وبالوسائل ذاتها.

الاستثناءات التونسية

أن تقوم ثورة في تونس في دول عربية أخرى بعد سنوات من الاضطهاد والشعور بالخنوع والضعف، وحتى الإذلال، في الوقت الذي كان فيه كل العالم ينظر إلى هذه الدول مجالات مستقرة، فذلك في حد ذاته استثناء كبير، على حد تعبير المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية الفرنسي "جون بيار فيليو"، ولكن التجربة التونسية أثبتت أن هناك استثناءات خاصة بتونس في الربيع العربي، وهي كثيرة في الواقع.

أهم الاستثناءات التي ميزت التجربة التونسية، كان الانسجام المجتمعي الكبير في ظل غياب الطائفية والتقسيمات العرقية أو الدينية، وهذا ما حافظ على مدنية الانتقال الديمقراطي، كما أن الطبيعة السلمية والوسطية للشعب التونسي كانت مهمة جدا لضمان عدم الانسياق وراء العنف. 

وهنا يأتي الاستثناءان الأهم، يتمثل الأول في وجود حركة إسلامية قوية ومنظمة وسطية أسقطت أحلام الإرهابيين والتيارات الجهادية في توفير حاضنة شعبية، أما الثاني، فهو نزعة النخب التونسية نحو إدارة الاختلاف بالحوار بعيدا عن التنافي والإقصاء.

في الواقع، يمكن أن يقوم حتى المتابع من بعيد أو من الخارج لمسار الانتقال الديمقراطي في تونس استثناءات عدة مكنت تجربتها من الصمود عكس بقية التجارب العربية، ولكن الثابت ولعله الأهم، هو الشعور المتبادل من طرف مختلف الفاعلين، وأغلبهم أو أكبرهم في البلاد بضرورة إنجاح التجربة التي كانت محل تثمين في أكثر من مناسبة دولية، لعل أهمها حصول الرباعي الراعي للحوار الوطني في البلاد على جائزة نوبل للسلام.

مأزق العقل السياسي بين الثورة والدولة

في صيف سنة 2013، وقد كانت البلاد تعيش ارتدادات اغتيالين سياسيين غادرين في الداخل، وعلى وقع رياح ردة عاصفة بانقلاب عسكري على الثورة المصرية وانقسام بين حكومتين في ليبيا، ناهيك عن الأوضاع في سوريا واليمن، وفي الوقت الذي كان فيه بعضهم يعد لحفلة إنهاء المسار التأسيسي في تونس، كان لقاء باريس بين "الشيخين" راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي نقطة إعادة انطلاق لمسار الانتقال الديمقراطي بأرضية الدستور الجديد للبلاد، وبعقلية المشاركة في إدارة الشأن العام وخدمة المصلحة الوطنية، كله ضمن استراتيجية التوافق التي جمعت الفرقاء، إلا من أقصى نفسه على طاولة واحدة لحماية سقف واحد كان بسقوطها سينهار على رؤوس الجميع دون استثناء.

العقل السياسي والجمعي ذاته الذي لا يفصل ولم يفصل حتى بعد الثورة بين الدولة والنظام السياسي هو الذي مازال لم يفهم الثورة عندما تدخل سقف الدولة تترجم في السياسات لا في الدولة ذاتها، فالدولة لا تثور حتى وفق المنطق اللينيني نفسه "لا بأس بالإبقاء على جزء من النظام القديم"، فالدولة تكون إصلاحية دائما أما تثوير السياسات فممكن، لكن شريطة توفير شروط المشاركة والتعبئة السياسية والشعبية اللازمة للإصلاح. 

وهنا سقط كثيرون في الفخ الذي انقلبوا به على أنفسهم وعلى خطاباتهم المعلنة، أو أنهم رفضوا تحمل مسؤولية تثوير السياسات التي لا تكون إلا بالمشاركة، بعيدا عن التنافي والإقصاء باعتباره ضديدا للديمقراطية.

صداع القطيعة مع الاستبداد والإقصاء

بنهج واستراتيجية التوافق وإدارة الاختلاف بالحوار باعتباره الوسيلة الأكثر تحضرا تمكنت تونس من مواجهة ريح عاتية هبت على الثورات، ولا تزال تجربتها تخوض غمار رحلة شيقة ومثيرة للإعجاب والاهتمام نحو فرض الديمقراطية والتعددية خيارا لا رجعة عنه. 

وهذا لن يكون طبعا مسارا سهلا، بل لعله المسار الذي ستتحمل فيه كل الأطراف تبعات تنازلات يقدمها الجميع، من أجل التعايش والمصلحة المشتركة، وهذا ما أفرز استثناءات أخرى في التجربة التونسية نفسها.

إذا كان الاستثناء التونسي متمثلا في سلمية ومدنية ثورتها، فإن السفينة التونسية قد باتت مهددة من تيارات متناقضة بإغراقها فالتيارات الإرهابية الجهادية التي تهدد الاقتصاد والاستقرار في البلاد وترفع شعارات التصفيات والإقصاء والنفي تلتقي في خياراتها بشكل أو بآخر مع تيار آخر من أقصى اليسار مصر على استئصال طرف بعينه من المشهد السياسي والحزبي في البلاد، حتى وإن كانت قد أفرزته صناديق الاقتراع.

قائمة الاستثناءات طويلة في الواقع وفيها أيضا التقاءا موضوعيا كبيرا بين عدد من التيارات والشخصيات المحسوبة على الثورة نفسها مع الدولة العميقة والتيارات المتطرفة من اليمين واليسار، ضد نهج إدارة الاختلاف بالحوار، والاعتراف بالتعددية، ومن ثمة المشاركة في إدارة الشأن العام. 

قد يكون هذا استثناءا صادما، ولكنه في الواقع مثير للشكوك وللكثير من نقاط الاستفهام، إذا ما اعتبرنا أن جزءا من أطراف هذا الالتقاء الموضوعي سيدفع هو ذاته ثمنا غاليا في صورة الانقلاب على التوافق.

تبدو كل الحجج والأدلة والبراهين التي مثلت ركائز وعلامات الاستثناء التونسي مهددة اليوم بنزعات إقصائية واستئصالية مبنية على النفي والعداء المطلق، تلتقي فيها تيارات ترفع شعارات الثورة مع أخرى مضادة للثورة ضد نهج التوافق الضامن للاستقرار ولتثوير السياسات. 

وهنا نعود في حلقة دائرية إلى النقطة الأولى ذاتها، أي أزمة العقل السياسي الذي لم يستوعب بعد مزايا القطع مع الدكتاتورية والإقصاء عبر الإقدام على مراجعات عميقة تتحول بموجبها إلى تيارات وطنية مسؤولة، أو أنها ستعلن قريبا عزلتها وموتها السياسي بعودتها إلى منظومة سياسية وحتى إبستيمولوجية سابقة، فالإنسان يتطور ليبقى ولا يعود إلى الخلف ليبقى.
التعليقات (0)