منذ حوالي قرنين من الزمان عندما تولى محمد علي حكم مصر؛ أصبح المصريون كلهم عمالا للحديقة الخلفية للحكام؛ وتشاء الأقدار أن تكون رشيد نقطة حاكمة لبداية الجريمة الكبرى التي تمت ضد مصر وتكون أيضا أحد النقاط الكاشفة الآن لما حدث لمصر والمصريين.
منذ مئتي عام استطاعت حامية رشيد بمعاونة المقاومة الشعبية في دحر الغزو الإنجليزي المعروف بحملة فريزر؛ استطاع الشعب الذي بامكانه القتال والحفاظ علي أرضه أن يقاوم ويصمد ويحارب جيشا نظاميا، والعجيب بدلا من أن تسعد "الدولة" بالشعب المقاوم؛ خشيت منه وقامت بسحب السلاح من المجتمع، والقضاء على كل القوى المجتمعية؛ بل وشكل جيشا من الضباط المرتزقة، لم يكتف بذلك؛ بل قام بتسخير كل مصر في حالة جنونية من التجنيد الإجباري المهين، وقام بتأميم مصر كلها لصالحه هو ومن يحكم معه.
تلك هي بداية الكارثة التي عمت مصر ولا زلنا نعاني منها حتى الآن، فرشيد التي قاومت منذ مئتي عام تروي قصة مصر كلها؛ فهي شاهدة علي كل تاريخ مصر منذ الفراعنة، رشيد التي استقبلت عشرات وربما مئات الجثث التي لفظتها مصر الظالمة القاهرة التي لم تعد مصر التي كنا نعرفها؛ بل أصبحت مصر لهؤلاء الأوغاد، عاد البؤساء على رشيد طافين على سطح مياهها للمرة الأخيرة، حاملين معهم أحلاما غارقة وأجسادا فارقت تلك الحياة.
إن رشيد التي شهدت ملحمة المقاومة القديمة وشهدت تركيع مصر على يد محمد علي الأول عادت لتخبرنا بحالنا الذي أصبحنا عليه؛ وتخبرنا أن محمد علي الثالث لا يختلف عن سابقه، فالأول حارب الشعب بمدافعه الثقيلة ليستعبدهم؛ والثاني أضاع السودان وسيناء واستمتع هو ومن معه بإذلال مصر، والثالث يهددها "بجيشه"، فهم سواء؛ كلهم يظنون أن مصر واحتهم وأننا جميعا موجودون في حديقتهم الخلفية، وهم حتى لا يهتمون بتلك الحديقة التي تحولت إلى مستنقع مليء بعفنهم وملعب يرتع فيه جنونهم.
إن ما حدث في رشيد هو منتج منطقي لحال مصر؛ فليست القضية فقط في الفقر الذي جعل مصر تلفظ أولادها؛ ولكن في ذلك التعامل المهين مع الجميع؛ الأحياء والأموات؛ في فقدان الإحساس بالمأساة واحتقار كامل والاستمتاع بالإهانة التي يبدو أنه جين مرتبط باللون الكاكي وخاصة في مصر، فهو يدفعك إلى أن تترك الحديقة الخلفية وتتحرك بعيدا إلي مكان آخر تأمن فيه على وجودك وسط الأوغاد.
إن العفن الذي ينخر في مصر والذي بدأ منذ مئتي عام ولم يتوقف إلى الآن باستثناء أعوام الثورة؛ هو نتاج سفهاء لا يملكون من أمرهم شيئا وهم أدوات رخيصة لمن يدفع أكثر؛ ويلهون بسلاحهم الذي لا يعرف سوى عدو واحد وهم ساكني المستنقعات الخلفية.
والبؤس الذي نراه في وجوه المصريين ساكني المستنقعات الخلفية لن ينتهي إلا بإزالة العفن الذي زرعه الأوغاد في مصر، سنظل نرى الموت من رشيد إلى النوبة ومن السلوم إلى رفح؛ وستظل وجوه المصريين بائسة حتى نكسر وللأبد حالة محمد علي التي تعتقل كل مصر منذ مئتي عام.
إن حالة محمد علي هي الحل الذي تكرر مع مصر ثلاث مرات في كل مرة يقترب الشعب من السلطة لتحقيق العدالة والحرية للمجتمع؛ عاش محمد علي الأول وهزم الثاني شر هزيمة وسيلقي الثالث مصيرا سيجعله عبرة كفرعون وعلى الباغي ستدور الدوائر.