أثناء إقامة مهرجان ومخيم "ليفنغ إسلام" الذي يقام كل عامين شمال إنجلترا، ألقت المستشرقة البريطانية الشهيرة كارين أرمسترونغ؛ محاضرة عن الطرق إلى الله. وكان النقاش دينيا عميقا عن فلسفة العبادة ورؤية الله عند الديانات السماوية الثلاث. لكن بسبب طغيان الاهتمام بالشأن الجاري، سأل عديد من الحاضرين آرمسترونغ عن تحليلها للظرف التاريخي الراهن الذي يمر به المسلمون، مع احتمال وصول شخص مثل دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة مع صعود التيار اليميني في أوروبا.
وكان رد المستشرقة البريطانية والكاتبة في تاريخ
الأديان لافتا، إذ اعتبرت أن الزمن الراهن يصح فيه وصف الفتنة التي تراها تحديا كبيرا يقلب كثيرا من الأمور رأسا على عقب. هذا ربما نصف الكوب الفارغ، أما نصفه الممتلئ، كما تراه، فهو أنها قد تكون مخاضا لأمر عظيم ينتظر العالم الإسلامي. ودللت على ذلك بأن المسلمين شهدوا فتنتين كبيرتين في تاريخهم الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان. أولاهما ما اصطلح على تسميتها بالفتنة الكبرى إبان عهد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن رحم هذه الفتنة ولد التصوف والمذهب الشيعي كرد فعل فكري على هذه الأحداث، كما ولد جيل جديد من المؤرخين، وكل هؤلاء أصبح لهم دور مركزي لاحق. والفتنة الثانية كانت دخول المغول إلى بغداد وحرقهم المكتبات وارتكابهم المذابح، وكانت صدمة حضارية وإنسانية كبرى للعالم الإسلامي. لكنها كانت مقدمة لظهور إمبراطوريتين كبيرتين من أهم دول الإسلام، وهما الإمبراطورية المغولية المسلمة في شبه القارة الهندية والتي استمرت ثلاثة قرون حتى منتصف القرن التاسع عشر، والإمبراطورية العثمانية التي امتدت حتى الربع الأول من القرن العشرين. وكان الأمر أشبه برد فعل سياسي على ما حدث من تدمير أحدثه اجتياح المغول.
وبعيدا عن الإطار السياسي والجغرافي العام، فقد كانت فتنة المغول واجتياحهم لديار الإسلام؛ البيئة التي ظهر فيها جلال الدين الرومي الذي كان لاجئا تاركا دياره بسبب هذه الحرب. وكل إبداعه وكتاباته كانت من وحي أجواء التوتر تلك.
تضيف كارين أرمسترونغ أن هذه الظروف المشابهة التي يقبل عليها العالم الآن تدفع لتبني خيار الجهاد. وأوضحت أن الجهاد هنا يعني الكفاح والشفقة على الناس وإظهار التنوع داخل المجتمعات الإسلامية. وهي مهمة تراها صعبة في ظل هذه الظروف، لكن مع وجود هذا التاريخ والتقاليد لدى المسلمين؛ يستطيعون القيام بها كما قاموا بها من قبل. وهم يحتاجون إلى إعادة إحياء مثل هذا الميراث مرة أخرى.
والحديث في هذا الشأن يستدعي بشكل آلي الكلام عن العنف ودور السياسة والدين فيه. فقالت أرمسترونغ إن فكرة الدين تعني في ذاتها طريقة الحياة، رافضة فكرة المسؤولية الدينية المباشرة عن العنف. وأضافت أنه حتى مطلع القرن الثامن عشر في
الغرب؛ كان من المستحيل الفصل بين السياسة والدين. وأسهبت في شرح فكرة أخرى مفادها أن استحداث فكرة القومية يستبطن شكلا من أشكال الدين؛ حين تتحدث عن الانتماء ووضع اليد على القلب أثناء عزف النشيد الوطني وشعارات مثل فليبارك الله أميركا.. إلخ. لكن هذه القومية كانت عنيفة جدا. وضربت مثالا بنزوع الدولة القومية نحو العنف من أجل صهر غير المندمجين معها، مثال ما فعله هتلر مع اليهود أو يوغوسلافيا السابقة مع المسلمين، وحاليا فكرة الاتحاد بين القومية والدين لدى قطاع من البوذية الذي ينتج عنه مذابح واضطهاد.
حديث هذه المستشرقة تنبع أهميته من أنه يأتي من كاتبة متخصصة في تاريخ ومقارنة الأديان، ومن شخص متخصص له آراء منصفة أبعد ما تكون عن التحيز، ومشتبك مع الأحداث الجارية بالتعليق والكتابة. وهي مؤلفة عدة كتب هامة، منها "حقول الدم، الدين وتاريخ العنف"، و"محمد نبي لزماننا،" و"القدس، مدينة واحدة وثلاث عقائد". كما أن لها تجربة شخصية هامة، فقد كانت راهبة كاثوليكية ثم تركت هذا المجال لتتجه لعالم التأليف والكتابة. وكما أن هناك تأثيرا سلبيا لعدد من الكتاب والمفكرين الغربيين على السياسات الخارجية والداخلية، فهناك تأثير إيجابي لمثل هذه الشخصيات التي تجد لها آذانا مصغية في دوائر صنع القرار وقطاعات كبيرة في المجتمع.