في موقف لافت وفي خضم التفجيرات الإرهابية التي تضرب تركيا منذ بداية الثورات العربية اتخذت أنقرة خيارات استراتيجية جديدة في ما يخص علاقاتها الخارجية إقليميا ودوليا. السعي إلى إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل من ناحية وبث الدفء في علاقتها المتوترة مع روسيا بعد إسقاط الطائرة الروسية المعتدية هما قراران سياديان يتعلقان بتحول استراتيجي كبير في السياسة الخارجية التركية الحديثة.
وجدت تركيا نفسها فجأة في خضم تداعيات الربيع العربي التي حولتها الدولة العربية العميقة ـ بما هي ذراع استبدادي للقوى العظمى ـ إلى ساحة دامية للقتل وللتصفية الجسدية. طال الحريق العربي الثوب التركي عبر الحدود السورية وتحولت أنقرة إلى معبر أساسي لملايين اللاجئين السوريين والعراقيين الهاربين من جحيم فرق الموت الإيرانية وقنابل الفسفور الروسية التي جاءت لتنقذ الوكيل الاستعماري الطائفي في بلاد الشام من مطلب الحرية الشعبي.
النقطة التحليلية الأولى تتمثل في أنه لا يمكن قراءة التحول التركي بشكل عام ومن نفس الزوايا لأن السياقات تختلف حسب زاوية الرؤية التي يقارب منها هذا الحدث. نرصد في هذه القراءة زوايا متقاطعة لمقاربة تطورات الموقف التركي الأخيرة وهي الزاوية التركية نفسها ثم الزاوية العربية فالزاوية الإقليمية.
فمن وجهة نظر تركية يمثل هذا التحول ضرورة استراتيجية ظرفية بسبب صعوبة المرحلة التي تمر بها البلاد وهي تجد نفسها في قلب كماشة محلية ودولية منظّمة تستهدف عمقها الاستراتيجي خاصة بسبب مواقفها من استتباعات ثورات الربيع الأخيرة.
فبيْن التغلغل الروسي والتمدد الإيراني والتغوّل الصهيوني من جهة القسم الآسيوي للحدود التركية تجد أنقرة نفسها تحت ضغط داخلي بفعل ضربات المجموعات الكردية الانفصالية الموجَّهة دوليا وتحت ضغط أوروبي من الجهة الغربية يترجمه تعطيل مفتعل لدخول الأتراك إلى النادي الأوروبي الضيق.
هذا الكم الهائل من التهديد المباشر لتركيا الجديدة بقيادة "حزب العدالة والتنمية" المحافظ وذي الخلفية الإسلامية المعلنة يجعل من صمود النظام التركي أمرا عسيرا خاصة مع ضعف حلقة التحالفات الممكنة إقليميا ودوليا بسبب ارتباط المنظومة الدولية في شكلها الأوروبي بما وراء الأطلسي بشكل مباشر.
بل إن عضوية تركيا في المؤسسة الغربية العسكرية الأبرز وهي "حلف شمال الأطلسي" لم تشفع لها في تخفيف حدّة الضغوط الدولية عليها بأن أدركت أن عضويتها لا تغدو أن تكون إيجارا مباشرا للقواعد التركية العسكرية لصالح تدخلات الحلف في مناطق النزاع بالمشرق العربي الساخن دائما.
أما اقتصاديا فقد مثلت الضربات الإرهابية الكبيرة التي تعرضت لها البلاد منذ خمس سنوات وآخرها "هجوم مطار أتاتورك" ـ قلب العاصمة الاقتصادية التركية وشريان حياتها ـ تهديدا مباشرا عصفَ بعصب الاقتصاد التركي وبواحد من أهم روافده وهو قطاع السياحة.
أما الأسواق الصناعية والفلاحية التقليدية لتركيا فقد تضررت بشكل كبير بسبب الوضع الداخلي المتأثر بحدودها مع سوريا بشكل خاص ووقوع الدولة تحت وطأة عدد كبير لا ينفك يتصاعد من المهاجرين والنازحين.
بناء عليه فإن تحولات الموقف التركي باستعادة العلاقات مع روسيا وتطبيع العلاقات من جديد مع "إسرائيل" إنما يمثل أحد أهم الخيارات القادرة على امتصاص درجات من الاحتقان والضغط الكبيرين اللذين تعاني منهما البلاد بمنطق التكتيك السياسي لا بمنطق العاطفة العمياء.
إنّ تخفيف الضغط على الاقتصاد التركي بالمحافظة على القطاعات الحيوية للدولة وتجنب التصعيد مع القوى الفاعلة في الجوار الإقليمي إنما تشكّل اليوم حلا ضروريا أمام صاحب القرار السيادي التركي في ظل أزمة عالمية ومالية خانقة.
أما عربيا فيمكن تلخيص الموقف العربي من التحول التركي الأخير في التطبيع مع ألدّ أعداء العرب والقضايا العربية رغم حرص الأتراك على طمأنة العرب عبر وضع قضيتهم المركزية مع "إسرائيل" على رأس جدول المفاوضات مع الكيان الصهيوني. من جهة أخرى يدرك الأتراك أكثر من غيرهم أنه لا يمكن التعويل على المكوّن العربي في شكله الحالي بسبب تشرذم هذا المكوّن وبسبب ارتهان القرار فيه لصالح قوى عظمى يمكن للأتراك التفاوض معها بشكل مباشر دون المرور بالوكيل العربي المحلي. عربيا كذلك يخسر العرب كما هو العرف الجاري في السياسية الخارجية العربية حليفا استراتيجيا هاما كان يمكن التعويل عليه في خلق حزام استراتيجي يدفع الخطر الفارسي من جهة ويعزز موقف الدول العربية من القضايا المشتركة خاصة الدول السنية منها.
إن الواقعية السياسية التي يتعامل بها اللاعب التركي في المنطقة تفرض عليه إعادة النظر في التحالفات القائمة خاصة بعد عودة الدفء إلى العلاقات الإيرانية التركية إثر التوقيع على اتفاقيات اقتصادية ضخمة بين الطرفين منذ مدّة قصيرة.
إن سعي أنقرة إلى الخروج من مخلفات الحالة العربية بأخف الأضرار الممكنة بعد احتدام الضغط الكبير عليها مؤخرا هو الذي يفسر إلى حدّ كبير التحول الأخير في سياستها الخارجية وهو تحول مرشح إلى مزيد التفاعل والتطور في حال بقي الموقف العربي متميزا بالتشرذم وانعدام الأفق.