قضايا وآراء

تونس.. صراع الرمزيات

محمد مالكي
1300x600
1300x600
خَلقت عمليةُ إعادةِ تثبيت نُصب تمثال الراحل "الحبيب بورقيبة" في الشارع الذي يحمل اسمه، جدلاً ونقاشاً بين التونسيين. فمنهم من اعتبر الحدث مؤشرا على عودة "الدستوريين"، الذين أسقطهم حراك يناير/ كانون الأول 2011، إلى حلبة السياسة، بعدما حَلّ القضاء حزبَهم، ومنعهم من ممارسة العمل السياسي من داخل " التجمع الدستوري الديمقراطي".في حين اعتبر بعضُهم عملية إعادة تمثال الزعيم إلى مكانه بعدما أزاحه الرئيس التونسي المخلوع " ابن  علي"، أمراً طبيعياً، بل خطوةً  مُنصِفةً في حق رجل ساهم باقتدار في جلاء الاستعمار وإعادة بناء الدولة الوطنية. وبين تأييد البعض ورفض البعض الآخر، كيف يمكن قراءة هذا الحدث، وفهم أبعاده في سياق تونسي موسوم بالتجاذب، والفعل وردّ الفعل، والعنف أحياناً؟

جدير بالتذكير أن إعادة تمثال "الحبيب بورقيبة" إلى مكانه الأول ليس عمليةً مفاجئةً، بل تُعدّ مُحصلة منطقية لخطوات سابقة لها، فقد شهدت تونس خلال السنة الأولى من حراكها الاجتماعي  (2011) عودة غير مسبوقة إلى إحياء كل ما يرمز إلى "البورقيبية"، ويبرز أفضالها وعناصر قوتها، وقد كانت "الثورة" في بدايات انطلاقها. والواقع أن المرء قد يجد لهذا الاستحضار الرمزي لحقبة مهمة من تاريخ تونس الحديث ما يُفسره، ويبرر الحاجة إليه. فالحراك أو "الثورة" انطلقت بدون رأس أو عقل يوجهها، ويُنير لها سبيل الارتقاء والنجاح، ومن هنا يمكن النظر إلى استعادة " البورقيبية"  كأحد المصادر القادرة على إمداد الحراك بزاد مرجعي كان في أمسِّ الحاجة إليه، هكذا على الأقل فكر بعض التونسيين.. وإلا بماذا نفسر صعوبة إدارة البلاد بعد سقوط النظام من خارج  الدستوريين أنفسهم؟، وحتى بعد فترة حكم " الترويكا"وإجراء الانتخابات  التشريعية الأخيرة (26 أكتوبر/ تشرين الأول 2014)، التي أعقبت صياغة الدستور التوافقي (27 يناير/ كانون الثاني 2014)، أعيدت إلى الواجهة صورة أحد رموز الحقبة " البورقيبية" ، أي الرئيس المنتخب " الباجي القائد السبسي"، فور فوز حزبه " نداء تونس".

يصعب فهم "عودة البورقيبية"، أو السعي  إلى استثمار صورة الزعيم بورقيبة في سياق سياسي وتونسي جديد، بدون استحضار المعطيات الجديدة التي أفرزها الحراك الذي شهدته تونس منذ نهاية 2010 ومستعل العام 2011. فمن جهة، هناك معطى إعادة ظهور "الإسلاميين" واكتساحهم الحياة السياسية وتصدرهم انتخابات 2011، بل وقيادتهم حكومة " الترويكا"، علما أنهم لم يكونوا في طليعة الحراك، ولا لعبوا في إدارته وتوجيهه أدواراً أساسية. والواقع أن بروزهم القوي خلق رجّةً في نسيج المجتمع التونسي، ودفع بفئات وشرائح واسعة منه إلى التخوف من دخول تونس مرحلة من الانكفاء إلى الخلف و التراجع عن المكتسبات المدنية  التي  تمت مراكمتها منذ انطلاق المشروع الوطني، لاسيما في مجالات الحريات، وحقوق المرأة، والقضايا ذات الصلة بالتنوع والتعدد. لذلك، لم يتردد الكثير من التونسيين في الدعوة إلى الاحتماء ب " البورقيبية"، بوصفها مُؤسِّسَة الدولة التونسية العصرية، وحامِيَة قيمَها المدنية، وقد دعا إلى هذا  بشكل رئيسي بقايا مناضلي "التجمع الدستوري الديمقراطي" المنحلّ، والتقى معهم موضوعيا " العلمانيون"، الذين لمسوا في الظهور المتصاعد ل " الإسلاميين" خطرا عليهم أولا، وعلى المجتمع التونسي، بحسب تقديرهم، ثانيا. 

تُقنِع الوقائعُ الجاريةُ في تونس أن مجملَ تنظيمات الطيف السياسي في  هذا البلد سعت بشكل أو بآخر إلى الاحتماء ب " البورقيبية"، واستثمار رصيدها الوطني في مواجهة تحديات الوضع الجديد الذي أفرزه الحراك الاجتماعي، سواء تعلق  الأمر ب" الدستوريين"،  أو بالمنشقين عنهم، أم ب " العلمانيين"، أم ب" الإسلاميين" أنفسهم. فاستحضار " الزعيم"، واستلهام مفرداته السياسية، وترديد أقواله وتصريحاتِه غدَت العُملة المشتركة بين الجميع.. والسؤال الكبير حقيقةً هو لماذا كل هذا الحب الكبير،  لزعيم أوقفه انقلاب طبي عام 1987، وغيبه الموت منذ ستة عشر عاماً (2000)؟. 

لا شك أن ثمة حلقةً كفيلة بتفسير هذا "الحب الكبير"، وأخالُ أنها، في جوانب كثيرة، ذات علاقة بضعف وضوح المشروع المجتمعي الجديد الذي يُفترض أن يقود الديناميات التي أفرزها الحراك الاجتماعي، ويوجهها نحو بناء تونس الجديدة، أي بناء دولة جديدة بشرعية جديدة. ولأن التوافق الذي قدمت تونس نموذجا متقدما عنه في عموم المنطقة العربية لم يذهب إلى حد ميلاد مشروع مجتمعي كامل وواضح ومتكامل، فقد أجبِرَ الجميع، وهم ملزمون على ذلك، على استعادة " البورقيبية" ، واعتبار رصيدها صمام أمان لتونس التي لم تتضح معالمها بما يكفي، ولم توطد انتقالها الديمقراطي بعد، ولم تتمكن حتى الساعة من إعادة الثقة إلى اقتصادها، وتجارتها، وأوضاعها المالية. بل إن المرء ليذهب بعيدا فيقول إلى الاحتماء بالماضي، والتصميم على الاختباء تحت جلبابه، ينم عن وجود شعور بالخوف من المستقبل، أو على الأقل رغبة في تجنب بياضاته التي لم تتم تعبئتها بعد. وحيث أن الشيء  بالشيء يُذكر، فقد شاركت في أكثر من مؤتمر وندوة حول " بورقيبة" و " البورقيبية" خلال حكم الرئيس المخلوع، وكنت أرى وأسمع النقد الحاد الذي كان يصل درجة التجريح من قبل النخبة الأكاديمية والعلمية التونسية، قلائل هم من كانوا يلتزمون بالاستقلالية  والتجرد في النظر إلى حقبة مفصلية في تاريخ تونس الحديث.. ولعلي كثيرا ما كنت أجهر، أو ألمِّح لأقراني من الباحثين أن قساوتهم على جزء مهم من تاريخهم الوطني، يعبر عن كثير من الاحتقان السياسي الذي ألمَّ بهم ما بعد توقف حكم بورقيبة.. بل كثيرا ما كنت أقول إن  القسوة في الحديث عن الماضي هي بشكل ما حديث ونقد للحاضر. 
التعليقات (0)