كان أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:
و"لِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ... بِكُلِّ يَدٍ مُضَـــرَّجَةٍ يُدَقُّ".
وقال لنا أيضا:
"وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا... قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ".
وكانت قضبان السجن تقف عبثا بين الأسرى واستنشاق هواء الحرية العليل القادم مع نسمات الليل عبر طرقات القدس القديمة وحجارتها المشبعة برائحة الياسمين والندى والطل.
وتكاد رطوبة غرفة المعتقل، وظلام الأقبية والسجون، تنيران الطرقات، و"يكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ"، والنور منبعه قلب الأسير الصامد والمقاوم الذي يحلم بالحرية، ويدق بابها بيده المضرجة بالدم دون كلل أو ملل، يرى نفسه ندا للطيور المحلقة في فضاء مشرع أمام البطولة، وأمام خيارات ضيقة ومحدودة، ليس له فيها سوى الصمود وتحدي الجلاد بالإضراب وغيره.
وربما يكون
الفلسطينيون من أكثر شعوب الأرض احتفاء بالمناسبات وبالقادة وبالشهداء، وبتطريز الأيام بخيوط الحرير الملونة كما لو كنت ثوبا تراثيا تلبسه الأمهات والجدات، وفي كل يوم لديهم ذكرى، وفي كل ذكرى ألم وغضب ورغبة جامحة بالمقاومة، والانعتاق من قيود الاحتلال الذي يعيشون مأساته منذ نحو مئة عام، وطيلة سنوات الجمر والرماد مرت عليهم أحداث جسام، تباينت بين معركة وحرب ومجزرة ومؤتمرات ومؤامرات وخونة وثوار ومقاومين وشهداء وأسرى.
وفي نيسان حيث أجواء الربيع والكرز واللوز، وقعت أحداث جسام كان من بينها المجزرة الأبشع في القرن الماضي، مجزرة دير ياسين، وكان استشهاد رمزين فلسطينيين هما، خليل الوزير(أبو جهاد) وعبدالعزيز الرنتيسي.
وقد يطلق الفلسطينيون مناسبة أو ذكرى دون سبب محدد، فقط احتفاء برموزهم، كما أطلقوا عام 1974 الاحتفال بيوم الأسير الفلسطيني في 17 نيسان/ أبريل من كل عام.
و يأتي
يوم الأسير الفلسطيني حاملا معه آمال الحرية وأحلامها للأسرى في سجون الاحتلال، التي دخلها أكثر من مليون فلسطيني منذ عام 1967 وحتى نيسان/ أبريل الحالي، بينهم أكثر من 15 ألف سيدة وفتاة وطفلة فلسطينية.
وبحساب بسيط، يكون أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد دخلوا السجون الإسرائيلية على مدار سنين الصراع الطويلة.
الاعتقالات لم تقف عند بلدة أو قرية أو مدينة معينة، ولم تنحصر في شريحة معينة أو فئة محددة، بل طالت كل فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني دون تمييز، الأطفال والشبان والشيوخ والفتيات والأمهات والزوجات ومرضى ومعاقين وعمال وأكاديميين ونواب في المجلس التشريعي ووزراء سابقين وقيادات سياسية ونقابية ومهنية وطلبة جامعات ومدارس وأدباء وصحفيين وكتاب وفنانين.
وتفيد الوقائع وشهادات المعتقلين بأن جميع الذين مرّوا بتجربة الاحتجاز أو الاعتقال تعرضوا لأحد أشكال التعذيب الجسدي أو النفسي، والإيذاء المعنوي والإهانة أمام الجمهور أو أفراد العائلة، فيما الغالبية منهم تعرضوا لأكثر من شكل من أشكال التعذيب.
والكلام عن الأسير الفلسطيني، نصفه عاطفة وأشعار وكلمات ودموع تمجد الأسير الذي ضحى بحريته من أجل حرية وطنه وأبناء شعبه، والصابر على ألم الابتعاد القصري عن أسرته وأحبائه، ونصفه الأخر أرقام وإحصائيات لا تدوم على حال ولا تقف عند رقم محدد.
وتقول الإحصائيات إن هذا العام شهد تصاعدا في الاعتقالات، ووصل عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال عام 2016 نحو سبعة آلاف أسير فلسطيني، بينهم 70 أسيرة، من بينهن 17 فتاة قاصر، وأقدمهن الأسيرة لينا الجربوني من الأراضي المحتلة عام 1948، التي دخلت قبل أيام عامها الخامس عشر في المعتقل، وأكثر من 400 طفل موزعين على سجني "مجدو" و"عوفر".
وتحتجز سلطات الاحتلال الأسرى في 22 سجنا ومركز توقيف وتحقيق إلى جانب معتقلي "عتصيون" و"حوارة" التابعين لجيش الاحتلال.
ويتعرّض الأطفال خلال فترة اعتقالهم لأساليب متنوعة من التعذيب والإهانة والمعاملة القاسية، وذلك منذ لحظة إلقاء القبض عليهم بطريقة وحشية، وتداهم منازلهم في ساعات متأخرة من الليل، والعديد من القاصرين انتزعت منهم الاعترافات بالقوة والتهديد، وحكموا غيابيا.
ومن قصص السجون يأتي ما يسمى " الأسرى الإداريون"؛ إذ يوجد في سجون الاحتلال ما يقارب 750 أسيرا إداريا، ويعتبر الاعتقال الإداري "العدو المجهول" الذي يواجه الأسرى الفلسطينيين، وهو عقوبة بلا تهمة، يحتجز الأسير بموجبه دون محاكمة ودون إعطائه أو محاميه أي مجال للدفاع؛ بسبب عدم وجود "أدلة إدانة"، وتستند قرارات الاعتقال الإداري إلى ما يسمى "الملف السري" الذي تقدمه أجهزة مخابرات الاحتلال.
وتتراوح أحكام الاعتقال الإداري ما بين شهرين وستة شهور قابلة للتمديد، يصدرها القادة العسكريون في المناطق الفلسطينية المحتلة بشكل تعسفي مستندين إلى العديد من الأوامر العسكرية، وطال هذا الاعتقال جميع فئات المجتمع الفلسطيني، والعديد من الأسرى الإداريين هم من الأطباء والمهندسين والأساتذة والصحفيين وكذلك نواب في المجلس التشريع، وكان الصحافي محمد القيق الذي فرض شروطه على الاحتلال رمزا من رموز الاعتقال الإداري بعد أن صمد في إضرابه عن الطعام لفترة قياسية.
ومن ضمن الأسئلة الكبيرة في قضية الأسرى ما يعرف بقضية " الأسرى الشهداء" الذين استشهدوا أثناء اعتقالهم على يد الجيش الإسرائيلي، وأعدموا بدم بارد، وأيضا الأسرى الذين استشهدوا في السجون نتيجة الإهمال الطبي المتعمد أو نتيجة عمليات القمع التي يتعرض لها المعتقلون داخل السجون، وبلغ عددهم 207 شهداء، وهناك عدد من الأسرى استشهدوا بعد تحررهم بأسابيع.
ومنذ نكبة فلسطين عام 1948، نفذت عمليات إعدام جماعية بحق أسرى فلسطينيين من خلال إطلاق النار عليهم بعد إلقاء القبض عليهم وهم أحياء، وكثيرا ما ادّعت "إسرائيل" أن هؤلاء الأسرى حاولوا الهروب فتم إطلاق النار عليهم، وفي حالات أخرى، فإن جيش الاحتلال يترك الأسرى الجرحى ينزفون حتى الموت، دون تقديم إسعافات لهم.
وهذا يدخلنا في قضية تعمد الاحتلال الإهمال الطبي والمتابعة العلاجية للأسرى المرضى والجرحى، بالإضافة إلى الاعتداء عليهم وتكبيلهم ونقلهم عبر عربات "البوسطة" سيئة الذكر، التي ينقل فيها من المعتقلات إلى المحاكم الصورية، وهي رحلة عذاب تمتد إلى أكثر من 22 ساعة أحيانا، ووصل عدد الأسرى المرضى إلى أكثر من 700 أسير، منهم 23 أسيرا يقبعون في عيادة سجن الرملة، وغالبيتهم لا يتلقّون سوى المسكّنات والأدوية المخدّرة.
ومن الملفات الأخرى ما يعرف بـ"الأسرى المعزولون"؛ حيث يعزل "الشاباك" الإسرائيلي 16 أسيرا انفراديا بذريعة "الدواعي الأمنية والملفات السرية"، سبعة منهم معزولون منذ عام 2013، علاوة على سياسة العزل شبه اليومي للعديد من الأسرى بذريعة "العقوبة"، التي غالبا ما تكون نتيجة لاحتجاج الأسرى على الظروف السيئة.
حكاية الأسرى الفلسطينيين هي حكاية فلسطين بأكملها، فالشعب العربي الفلسطيني يعيش في الواقع في سجن كبير، لكن بلا جدران وقضبان، وأكبر نموذج لهذا النمط من السجون التي لا توجد سوى في فلسطين، هو سجن قطاع غزة الذي يعاني من حصارين: إسرائيلي، وعربي عبر مصر.
الشريط الضيق الذي يشغل المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، ويشكل نحو 1.33% من مساحة فلسطين التاريخية، ويمتد على مساحة 360 كيلومترا مربعا، ويسكنه نحو 3 مليون نسمة، هو سجن فعلي، لأن لا أحد يستطيع مغادرة القطاع دون أن يمر عبر ستة معابر، تسيطر مصر على معبر واحد هو معبر رفح الذي يربط القطاع بمصر، والخمسة الباقية تربط القطاع بالأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، وتسيطر "إسرائيل" عليها كلها.
وتشكل المعابر البرية في قطاع غزة المتنفس الوحيد والمخرج الوحيد لسكانه ولتواصلهم مع العالم الخارجي، تماما كما تشكل بوابة المعتقل الحاجز الكبير بين الأسير والحرية التي تحتاج إلى يد تطرق باب السجن.
ويرى كثير من الفلسطينيين أن هذه اليد هي يد المقاومة التي فرضت على الاحتلال أكثر من صفقة لتبادل جنود أو رفاتهم مقابل إطلاق سراح الأسرى، وكانت المناسبة هذا العام هدية للأسرى بعد أن تعهدت المقاومة في غزة بإطلاق سراح جميع الأسرى من السجون الإسرائيلية، إثر إعلانها عن أسر عدد من جنود الاحتلال في حرب غزة الأخيرة.
الأمل يبقى يشع نورا في أقبية السجون المظلمة، وثمة ضوء في نهاية النفق، وباب الجرية يوشك أن يفتح تحت طرقات الصمود والتحدي والمقاومة.. تصديقا لنبوءة أحمد شوقي.