تشير هذه القصة إلى نمط في التفكير والتدبير والسلوك يجب التوقف عند عناصره، فيحكى في المخيال الشعبي أن هناك شخصا في قرية أسماه أهلها "أبو العريف"، كلما واجهوا عقدة أو مشكلة فزعوا إليه وهرولوا، أو انتقلوا به إلى مكان الحدث إن كانت المشكلة مادية ليعاينها على الطبيعة، يحكي له الخلق، يفصلون الأمر، وهو يشير لهم وعليهم أن المشكلة يسيرة، يحلها بأصبع قدمه، وما يلبث إلا وقد اقترح لهم حلا، تفتق ذهنه عنه وطالب الجميع بالعمل على تنفيذه قبل فوات الأوان والشروع في تنفيذ ما يملى عليهم أو ما يؤمرون، من غير أن يعقبوا عليه أو يسألوه.
وفي ذات مرة عطشت إحدى البقرات، فدفعت باب إحدى الدور، وهجمت من عطشها على "زير" أدخلت فيه رأسها لتشرب، فحشر رأسها، فكانت الواقعة، فما كان من شهد الحادثة إلا المطالبة بالفزع إلى "أبو العريف" ودعوته على جناح السرعة قبل تفاقم المشكلة بما لا تحمد عقباه، إنه أبو العريف يعرف لكل مشكلة حلها، ويعرف لكل معضلة اقتراحا وعملا، ومن تقديرهم الكاذب له، كانوا يحملونه على هودج في موكب، فحينما وصل إلى الدار عرضوا عليه الإشكال وطالبوه بالحل، إنه في سماته لا يمكنه كما لا يسعه أن يقول لا أعرف، كيف يقول لا أعرف من اعتقد في ذاته أنه أبو العريف، واعتقد جملة من سدنته ومتابعيه أنه كذلك.
وما إن وصل إلى مكان الحدث حتى هلل الناس واصطفوا يخلون الطريق لموكب "أبو العريف الهمام"، وحيث إن موكبه عريض لا يسعه باب الدار، أمر بهدم واجهة الدار ودخل بموكبه، ثم بدأ عملية الإنقاذ في مذهبه، فطالبهم بذبح البقرة ذات الرأس المحشورة، فقالوا أن الرأس لا زالت في الزير، فأمرهم بكسر الزير حتى يخرج رأس البقرة، ومن هوانهم واستخفافه بهم جلس أبو العريف في زاوية بعد أن نزل من هودجه المحمول يبكي، فعجب الجميع لذلك، خاصة أنه في عرفهم قد قام" بحل المشكلة"، فبادرهم بالإجابة عند سؤاله عن سبب بكائه، فبادرهم بالجواب: "إن بكائي بسبب ماذا لو اختفيت؟ كيف ستتصرفون؟، ماذا ستفعلون من بعدي وبعد مماتي؟ وماذا سيكون حالكم؟".
بادرهم بذلك بعد أن خرّب الدنيا أو خربها.
إن الأمر في شأن أبي العريف الذي يعد جزءا من صناعة الفرعون، المستكفي بذاته، المستغني عن غيره، المنتفخ في نفسه، لا يقتصر على فرد زين أو حاكم قبل، ولكن الأمر أبعد من ذلك، يتمثل في مخالفة غير بريئة بين سلطان القوة وسلطان الحجة والمعرفة. وحينما يستخدم سلطان الحجة والمعرفة في خدمة سلطان القوة، فإن ذلك يعني نمطا من التحالف غير سوي يأتي بالسلبيات على مجمل العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، لا بأس من جماعة تحيط بالفرعون تزين له ومن كل طريق، إنها صناعة الصورة ولا بأس من علماء سلطان أو رجال إعلام يعزفون معزوفة أبي العريف.
إلا أن هذه الحالة السابقة لا يمكن الوقوف عندها من دون التحرك صوب النموذج الفرعوني، وهو نموذج مركب قوم على قاعدة من علاقة فرعونية استبدادية (فاستخف قومه فأطاعوه)، إنه يحمل في هذا السياق مؤامرات متداخلة. تشتمل هذه القصة على مؤامرات مركبة وتصورات مفبركة.
المؤامرة الأولى هي مؤامرة أبي العريف، تلك التي تقوم على قاعدة من تقدير الذات بأعلى من مقامها، وذلك في حالة معرفية يقوم فيها صاحب السلطة بالاستيلاء على المعرفة (إن أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، ادعاء المعرفة المطلقة وادعاء الصواب لمطلق عمليات تشير إلى بناء فرعوني يقوم على قصة التوجهات الحكمية وعلى استخفاف من صاحب السلطة لعقول تابعية صناعة الرض الكاذب (المؤامرة اصطناع الأزمات من قبل النظم السياسية لأحداث حالة من التعبئة العامة).
أما المؤامرة التي تتضافر مع هذا المعنى، فإنها مؤامرة الصمت التي تشكل بأطرافها قابليات مهمة لعناصر صناعة الاستبداد؛ حتى تشكل حالة من حالات اغتصاب السكوت أو فرض السكوت، مؤامرة الصمت هنا تتداخل لتنتج حالة ثالثة تتعلق بمؤامرات التواطؤ والعجز، بحيث تؤدي في النهاية إلى تواطؤ على الطاعة من غير مسوغ أو من غير حجة، إنها الطاعة العمياء والعبودية المختارة، وفي هذا المقام تقام أركان هذه المؤامرة على أسس من علاقة نماذجية ترتبط بعلاقة السيد بالعبد في أطر كلها قد تتشكل في حالة توزيع للأدوار متفق عليه، وإن شئت الدقة متعارف عليه.
هذه الصياغة الفرعونية الاستبدادية تتحرك في إطار شروط من الاستخفاف ومؤامرة تتعلق بعقلية العبيد، هذه الرؤية النماذجية يمكن أن نربطها بإطار رؤية سننية تتحكم في صياغة هذا النموذج الاستبدادي الفرعوني في علاقاته ومؤسساته وقدراته وتأثيراته وآلياته.
وفي كل الأحوال، فإننا ضمن هذه اللحظات التاريخية والنماذج التاريخية في آن واحد إنما نتحدث عن رؤية للتاريخ تقوم على قاعدة أن المؤامرة لا تكون فقط من الخارج، بل قد تكون مؤامرة على الذات، والمؤامرة لا تدبر بليل، ولكنها عناصر إحكام واستحكام، والمؤامرة لا تكون سرا، فقد تكون من العلانية إذا ما صار القول في قوته والضعيف في عبوديته وقابليته، يخلق كل ذلك حالة من الاستخفاف والاستهانة، فيحكم قواعد وعناصر تلك الحلقة الفرعونية وحبك مؤامراتها وتمكين صورته الزائفة.
تذكرت كل ذلك حينما أشرت إلى نموذج المخلوع
مبارك مع جهله بكثير من الأمور، متمسكا بأن يذكر تابعوه "بناء على توجيهات السيد الرئيس"، والحديث عن الحكمة والحكيم، رئيس لا تصدر عنه إلا الحكمة لما لا وهو الحكيم، إلا أن الأمر الذي تصورته آنفا ظل نذرا يسيرا من ادعاء طبيب الفلاسفة ومطالبة زعماء العالم والدنيا بالاستماع له، أبو العريف الجديد فاق أبا عريف الحكاية وكذا أبو العريف المخلوع؛ لأن حكايته لم تكن إلا قصة خراب
مصر، فقد قارب النيل أو يكاد وقد جف، وهذا العدو الذي صار صديقا في تحالف استراتيجي، وإن شئت الدقة في انبطاح استراتيجي، وهذا الدولار استأسد على الجنيه وقد افترسه، وأطل غول الأسعار الذي تغول على عموم الناس ضمن استراتيجيات الإفقار في بر مصر، وتمكن الفساد بشبكاته والبطش بكل أشكاله، ورغم هذا الخراب ظل يعتقد أنه أبو العريف وظل سدنة الإفك يروجون لذلك.