كاتب هذا المقال مفكر عربيقي، (عربي – أفريقي، واللهم لا اعتراض) له إسهامات نظرية جسيمة أثْرت الفكر السياسي العربي، حتى أصيب بفقر الدم الذي يعاني منه حاليا. ولم يكن جائزا لرجل كهذا أن يصمت إزاء ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة (وكلها محتل عمليا)، وإذا كانت الأحداث المؤلمة التي راح ضحيتها الملايين بين لاجئ وشهيد وجريح وليدة وعد بلفور، فلا عليكم.
أبشركم اليوم بالترياق المضاد الذي هو "وعد جعفور". (صرت أتحسس من "البشرى والبشارة"، لأن اسم الغول الذي يقود المغول في سوريا مشتق منهما)، المهم أنه وبما أنني نتاج الفكر العربي المعاصر، فإنني أعتقد أن المواطن العربي قاصر، ومن ثم لن أخوض في تفاصيل الوعد، بل سألخصه في إيجاز:
الدولة الفلسطينية المستقلة فعليا وعمليا، قادمة، ولا صلة لها بالدويلة العرجاء التي يعدوننا بها كل بضعة أشهر، والتي ستكون تحت رعاية إسرائيل، والتي، حتى رئيسها سيدخلها ويتجول فيها بتصريح إسرائيلي، ولا تتشاءموا بالقول: وكيف تقوم مثل تلك الدولة وديناصورات أسلو ومدريد جالسون على الكراسي؟ يا جماعة لا تنسوا أنه حتى الكراسي لها حس وطني، وبالتالي فإنها حتما ستصيبهم بالبواسير والناسور، فيهلكون أو ينزوون في دور العجزة أو متاحف التاريخ الطبيعي. وحتى إذا تقاعست الكراسي عن القيام بتلك المهمة الوطنية النبيلة، سيصبح الفلسطينيون مشمولين برعاية منظمات حماية البيئة، المعنية بأحوال السلالات المهددة بالانقراض.
ولكنني، وبوجه عام أميل إلى التفاؤل، لأن العرب لم يستخدموا بعد ترسانتهم بالكامل. فعلى سبيل المثال، فبرغم كل التشنيع على الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي يعلم الله وحده كم عددها، (سؤال غير بريء: هل يتبع الأمن الوقائي الفلسطيني لوزارة الصحة؟)، وبرغم كل الاختراقات التي حققها جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد"، في الصف الفلسطيني، فإن جهاز "البوساد"، وبالاستعانة بالخبرات العربية في هذا المجال، يقوم بنشاط مكثف في صمت.
ومن المؤمل أن يعمل المكتب القومي للبوساد الذي يتبع للجامعة العربية بكفاءة عالية خلال الغمة المرتقبة (يبدو أن الكومبيوتر الذي أكتب عليه هذه السطور، صنع في السودان، مما يفسر ميله إلى جعل القاف غينا، والعكس، تماما كما أن الكومبيوترات المصنوعة في الخليج لا تميز بين الضاد والظاء).
(لا تقل إنه لا يوجد حديث الآن عن مؤتمر غمة عربي، فتلك المؤتمرات تشبه الكوارث الطبيعية، وتحدث فجأة عند "تقلُّب الأحوال" لزيادة الأهوال). المهم أنه وعند انعقاد الغمة (وستكون كالعادة طارئة لأن الكوارث الطبيعية تستوجب إجراءات "طوارئ")، سيشهد الجمهور العربي، الذي يشغل الأرض الممتدة من الجرح إلى الجحر، تبادل "البوسات" ذات الفرقعة المدوية.
والبيان الختامي للغمة المقبلة، والذي بلغني أن صياغته أوكلت (البيان كالعادة جاهز سلفا) إلى فحول الشعراء، الذين ليسوا بحاجة إلى فياغرا من وادي عبقر، سيكون قمة في تبويس العدو وتتييس المواطن العربي.
ولا يجوز أن نغمط حق جهاز "البوساك" الذي يقوم ندا لجهاز الشاباك الإسرائيلي، ويعمل على توزيع البروزاك السياسي أكيد المفعول في إزالة الاكتئاب الوطني الوبائي، أو ذاك الجهاز الذي يقابل "الشين بيت" الإسرائيلي، ويعمل في صمت تحت مسمى "بيت شين" ومعناه "بيت سيئ السمعة" حيث يتم إيداع الخونة والمرجفين الذين يظنون بأوسلو ومدريد الظنون.
وقد لامني البعض لأنني لم أكتب عن أعمال القتل اليومي التي راح ضحيتها أكثر من 220 فلسطينيا خلال الأشهر القليلة الماضية، وما لا يعرفه هؤلاء البعض هو أنني لا أكتب في مثل تلك القضايا، إلا بعد استشارة كتب التراث العنترية التي تلهب الحماس وتحثنا على بذل الخدود والشفاه في سبيل نصرة قضايانا.
وفي أحد تلك الكتب عثرت على معلقة الشاعر الجهلاني خذيل الطبعاوي الذي قال مخاطبا حبيبته مادلين بنت كوهين:
ألا هبي بخدك فاصبحينا
وبوسينا لكي نغدو هجينا (يقصد بذلك أنه طالما اليهود "أبناء عمومة"، فإن التباوس سيقود إلى مراحل تالية تؤدي إلى التناسل والتكاثر لإنجاب شعب هجين، يعيش في إسراطين).
وكعادة الشعراء الجهلانيين يترك خذيل الغزل، وينتقل إلى الفخر بجهود قومه في قهر الأعداء:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ونُشبع غيرنا بوسا مهينا
وللعذال فلفلة وكيد
لأنا قد بسسنا الأرذلينا
وإلى هذا البيت الأخير يعود قول الشاعر المعاصر يا عوازل فلفلوا"، و"كايد العزال أنا من يومي".
وربما يذكر المعنيون بالقضايا المصيرية، تلك الواقعة التاريخية المتمثلة في دعوة فيفي عبده كضيف شرف في حفل تدشين القناة الفضائية الفلسطينية، تحت شعار "هزّة لغزّة" حيث وقف الشاعر مغردا:
وطني لو شغلت بالبوس عنه
نازعتني عليه في البوس فيفي
المهم أن الأحداث المتوالية، أثبتت أن القيادة الفلسطينية مشبعة بالكولسترول السياسي العربي، ومنه عرفت قيمة البوس كسلاح استراتيجي، فكم من زعيم عربي أشبع الفلسطينيين قتلا وسحلا وسجنا، ثم وزع البوسات لمحو كل الجراحات. وفي معظم العواصم العربية أثبتت الجماهير التي تتندر على قادتها، أنها أيضا نتاج ثقافة البوس والعويل، فكان ما نشاهده كلما ادلهمت الخطوب على شاشات التلفزيونات، من جعجعات، عملا بقول الشاعر:
وللأوطان في فم كل حر
مظاهرة وبوس مستحق
لله در الشعر العربي الذي نجد فيه الفياغرا والفاليوم والعزاء والسلوى.
بينما كان المشيعون يحملون قبل أسابيع جثمان شاب فلسطيني صرعته رصاصة إسرائيلية، تسلل إلى أذني الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم باكيا: وكان في العشرين لم ير / ألفا من الشموس مقبلة / ولم يعش هناءة الزفاف / ولم يكن في يده أكثر من حجر / ولم يكن في فمه أكثر من هتاف / وكان في خطوط النار في المقدمة. (فسألت نفسي: ومتى يصل الرصاص إلى القابعين في المؤخرة؟).