اليوم يشبه الأمس في
تونس والرحى تدور فارغة وتسمع لها جعجعة ولا ترى طحين التنمية. عاد النظام القديم إلى أساليبه المعروفة. المعارك الجانبية لإخفاء فشله على الجبهات التي تدعوه إلى الحرب الحقيقية. يقول وزير ماليته غير المختص في المالية ولا في الخطاب السياسي أنه عاجز عن تدبر أجور شهر ديسمبر فيكمّل بكلامه خطاب رئيسه عن احتمال إفلاس قريب للدولة وانهيارها. فيما وزير التعاون الدولي يعقد اتفاقية منفردة ليسلم مستقبل البلد إلى بنك فرنسي. كأن المستثمر الأجنبي يمارس الشفقة على الفاشلين. لذلك يستعيد النظام معركة
المساجد وطرد الأئمة بدواعي مقاومة التكفير والوهابية. لكن هل معركة المساجد مجرد تمويه عن فشل اقتصادي أم يختفي خلفها برنامج آخر ذو جوهر انتخابي؟
باسم مقاومة الإرهاب
الهروب إلى الأمام برنامج سياسي يتقنه الفاشلون. وقد استعيد عبر فرض محور مقاومة الإرهاب على المرحلة. إذ عاد النظام معتمدا على أغلبيته البرلمانية إلى مناقشة قانون مقاومة الإرهاب الذي سبق للثورة أن أسقطته. وفرض من جديد بكل حيثياته الأولى ومنها خاصة عدم تعريف الإرهاب وفرض عنوان واحد هو أن كل الإرهاب يتلبس لبوس الدين. وبالتالي يجب مقاومة بؤره أي الخطاب المسجدي. لذلك استهْدِفَ الأئمةُ السلفيُون (وهم في جوهرهم مَدَاخِلَة يسبِّقون الطاعة على العدل) ولم تشفع لهم خطاباتهم المعادية للتطرف وتكفيرهم لحملة السلاح ودعاة العنف ووقوفهم إلى جانب الدولة في مقاومته وتنفير الناس منه. كما لم يشفع لهم أنهم كٌفِّرُوا من قبل السلفية الجهادية المنتجة لخطاب القتل.
بالتوازي مع ذلك يشكِّك كل التونسيين في الروايات الرسمية حول كل العمليات الإرهابية التي حصلت في تونس. ويجدون فجوات في السيناريوهات وتتحول عندهم إلى نكت يومية. رغم ذلك تصر الأجهزة على براءتها وتكملة الرواية حتى النهاية. وقد ظهرت من داخل النظام نفسه شكوك حول ما جرى مثل قضية الإعلامي بن غربية. وكل خلل في الرواية يزيد من الاستهانة بالإرهاب الموجود فعلا بل يخلق تعاطفا معه لأن الإفراط في تحميله ما يجري دون مصداقية يجعل طبقا لقاعدة وجدانية (غير عقلانية) عدوَّ العدوِّ صديقًا. فلماذا ومن المستفيد من تفكيك الجبهة الوطنية التي يجب أن تقوم فعلا ضد الإرهاب لاستئصاله من تونس؟
الإرهاب شمَّاعة فشلٍ
هكذا فكر المخلوع. وها تلاميذه وأجهزته تواصل على نفس المنوال. التهديد بوجود الإرهاب يمكن أن يجمع الناس حول النظام لأنه الأقدر على مقاومة الظاهرة وعناصرها المنفلتة وهو الأمر الصواب. فالدولة هي من تقود هذه المعركة لكن عندما يتفطن الناس إلى أن حصر الجهد في هذا الباب وتحويله بالجهد الإعلامي الفاسد إلى غول يهدد الناس ويحرف انتباههم عن حاجاتهم الأكثر حيوية فإن الناس/الضحايا يكتشفون بسرعة أن الشماعة الإرهابية تغطي فشل النظام في ما يجب القيام به في سياق مقاومة أخرى أكثر جذرية للإرهاب هي المقاومة بالتنمية. والجميع يقول بصوت عال: أليس من التناقض أن التحاليل كلها تذهب إلى أن الإرهاب ناتج عن بيئة الفقر والتهميش ثم عوض معالجة جذور المشكل يتجه العمل
الأمني(السياسي في الواقع) إلى طرد الأئمة من المساجد.
وهاهم طردوا ومنعوا من الخطابة فماذا بعد؟ ما هي القضية التي سيتم اختلاقها لصرف الناس عن الاهتمام بحاجتهم ومحاسبة الحكومة الفاشلة عن فشلها؟ يجب الاعتراف في أثناء ذلك بقوة الآلة الإعلامية للنظام. إنها آلة منظمة ولها غرفة عملياتها التي تستبق وتخلق الاهتمامات التي تريد ولم يمكن لأي ماكينة أن تواجهها بنفس الفاعلية ولا يبدو أن هناك في الأفق من سيفعل ذلك. فالناس خلفها كالمأخوذين بسحر أسود.
قضية الأئمة قضية سياسية وانتخابية
يقع المتعاطفون مع الأئمة وخاصة الإمام الجوادي في لعبة الإعلام.الذي يجرُّهم إلى الفروع وينسيهم الأصل. فعوض تجميع الصفوف للدفاع عنه بصفته غير متورط في الإرهاب ولا يقدم للقضاء على أساس قانون الإرهاب مال المدوّنون الصادقون (وغيرهم) إلى لعن حزب النهضة الذي لم يحرر إماما من الأمن.
رغم معرفة الجميع بأن الإمام المذكور مثل من سبقه ليس نهضاوي الانتماء ولديه خطاب ديني وسياسي مختلف جذريا. خاصة في ما يتعلق بمهادنة النظام والتعايش مع فلوله. (يوجد موقف متطرف في غبائه لا يحتاج الرد عليه مفاده أن كل من دخل مسجدا فهو بالضرورة نهضاوي الانتماء).
الأمر من زاوية مختلفة
إن شعبية إمام مثل الجوادي مزعجة لمن لديه طموح زعامة في المستقبل القريب. فإذا تأملنا الساحة الآن سنجد أن حديث الانتخابات القريبة يزدهر في الكواليس والزعماء الصغار يستعدون له تحت طاولاتهم الحزبية وضمن شبكات الولاء التي ينسجونها القبلية منها والمالية المافيوزية. بقاء الجوادي نقيا وشجاعا يصلي وراءه كل أسبوع أكثر من عشرة آلاف شخص. ويمكنه لو رغب أن يقود مسيرة في عاصمة الجنوب(صفاقس) بمائة ألف شخص حول قضية حقيقية كما فعل دوما. هذا الرجل مزعج للزعامات القميئة والمحدودة الأفق والتأثير. لذلك يجب إسقاطه. ولو تُوبِعَ بقانون الإرهاب لما ثبت عليه شيء يدينه (فخطبه تبرِّئه) لذلك استعملت معه الأساليب القديمة الطعن في الذمة المالية.(المطلوب توسيخ الرجل بما تيسر) فلا يكون له مستقبل سياسي رغم أنه لم يصرح بما يفيد رغبته في الزعامة السياسية.
لكن الساحة خالية من الزعماء والشخصيات الكاريزمية. الرئيس المنصف المرزوقي الذي حصل على حوالي مليون ونصف من الأصوات الصادقة أعلن تخليه عن كل طموح. والرئيس الحالي ساقه إلى القبر أقرب. ومن يتحرك تحت مظلته الآن أعجز من أن يقنع ألف شخص بالتصويت له. وقيادات حزب النهضة رؤوس متساوية لا يمكن لأحدها أن يتقدم دون إغضاب البقية (فضلا عما يعلنون من عزوف في الترشيح). في ظلام المشهد الزعاماتي تلمع صورة الجوادي الشاب النبيه الخطيب الطيب المتمكن من أكبر جمهور محافظ يحركه كيف يشاء.
من هنا أفهم قضية محاربة الرجل. إنها أوسع من قضية الإرهاب. بل قضية الاستعداد للانتخابات القادمة في زمن يراه الجميع قصيرا ويستبقونه. يجب إطفاء الزعامات غير النمطية. الجوادي مزعج جدا. ولو لم يعلن عن أية نية أو طموح سياسي. لكن لنتخيل انه يترشح ضمن انتخابات الولاة/المحافظين على مدينة صفاقس. لن يكون له منافس ومهما كانت العوائق سينجح في جعل صفاقس أقوى اقتصاديا وخاصة سياسيا. كل الإمكانات تؤهله ليكون احمدي نجاد أو طيب اردوغان تونسي يصعد عبر الحكم المحلي درجات السلم السياسي.
الجميع في تقديري مشغول بتدبر أمره بسرعة في الانتخابات القادمة البلدية منها والرئاسية. وكما ذكرت أعلاه لم يبدر من الإمام الجوادي أي طموح سياسي ورغم ذلك يبدو الرجل بصدد التمكُّن من عقول كثيرة تؤمن بنقاوة السيرة والسريرة. ولذلك فإن كل الطموحين يحسبون له حسابا خاصة وقد شرعوا في تحجيمه على أمل إرباكه وإخفائه في مجال الوعظ ولو بعد حين (يعاد له مسجده وخطبته مقابل صمته عن كل طموح). ولا بأس في الأثناء من حرف اهتمام الناس عن القضايا التي تشغلهم يوميا. تدبر معيشتهم في ظل نظام مرعوب من الإفلاس ويعرف أن سبب رعبه كامن فيه وليس خارجه فضلا عن تشغيل الكتائب الإعلامية المأجورة في لعبة تحبذها لعبة العبث بالعقول للإحساس بالسعادة. فالصغار يحبون اللعب فيما الكبار يعدون الطبخات المسمومة على مائدة المستقبل.