المشهد التونسي مشرقٌ في الخارج أو هكذا يراد له أن يكون لكنه مكفهرّ بالداخل محتقنٌ اجتماعيا والبلاد في قلب أزمة اقتصادية ومالية خانقة. الصورة التونسية النصفيّة جميلةٌ فالوجه تغطيه الأصباغ والمساحيق بشهادة " العم سام " لكنّ الرجْلين اللذين يلزمان لتحريك المسار الانتقالي مكبّلان بسبب غياب الرؤية وصراع النخب من ناحية وبسبب ارتهان المؤسسات السيادية للنفوذ الدولي وأذرعه المالية من ناحية أخرى.
بعد الثورة ـ ثورة 17 ديسمبر بسيدي بوزيد لا غير ـ تحركت الثورة المضادة وبعد الثورة المضادة جاء الحوار الوطني حلاّ وسطا بين الانقلاب العسكري والعودة العلنية للحرس القديم وبعد الحوار الوطني عاد الوضع الاجتماعي والمالي والسياسي إلى حالة لا تبتعد كثيرا عن الحالة التي من أجلها كان الانفجار التونسي الكبير في سيدي بوزيد. حالة الاحتقان الاجتماعي وفشل أداء النخب المحلية بمختلف ألوانها وأطيافها سواء تلك التي في السلطة أو في المعارضة هو عنوان المرحلة الحالية التي تبدو لدى بعض المراقبين أكثر المراحل خطورة في تاريخ المسار الانتقالي وخاصة في تطبيع الجزء الانقلابي منه.
الأزمة ككل الأزمات تقع على طرفي نقيض يتمثل الأول في غزارة الاعتراف الدولي بنجاح التجربة التونسية بشكل ملفت واحتفاء دولي مشبوه بها يقابله في الجهة الأخرى ارتفاع كبير في منسوب الاحتقان الاجتماعي وتدهور خطير للحالة الاقتصادية والمالية للبلاد.
إنّ كثرة الجوائز العالمية المتهاطلة على تونس بدءا بجائزة نوبل التي منحت للرباعي الراعي للحوار الوطني وصولا إلى جائزة مجموعة الأزمات الدولية الأخيرة التي تسلمها مناصفة رئيس الجمهورية ورئيس " حركة النهضة " تمثل أحد أدوار التجميل الدولي الباحث عن تقديم المنوال التونسي منوالا حريّا بالإتباع ونموذجا جديرا بالاستنساخ. هذه الاعترافات هي رسالة موجّهة أساسا إلى الدول العربية خاصة وإلى نماذج دول العالم الثالث أو الدول المتخلفة بشكل عام والمتطلعة إلى التغيير.
كثيرة هي العناصر التي لا بد من وضعها على طاولة المقاربة والقراءة : أولها الوزن الإقليمي لتونس والذي لا يمثل هندسيا ثقلا يذكر مقارنة بدول عربية أخرى كمصر والجزائر وليبيا لكنه وظيفيا وزن هام جدا على مستوى قدرة هذه الدولة الصغيرة على التأثير وعلى الفعل ورد الفعل وهو تأثير يتجاوز محيطها الإقليمي نحو بعدها العربي والدولي أيضا. وليست ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس وأحدثت في المنطقة والعالم تغيرات لا تزال أصداؤها تتردد وتتفاعل إلى اليوم إلا خير دليل على هذا الدور الوظيفي للبلاد التونسية. تونس قدرة على الفعل والتأثير في غيرها وفي مجالها الإقليمي وخاصة العربي بمقتضى واقع الجوار خاصة مع ليبيا والجزائر هذا التأثير لا ينطلق من البلد نفسه بل من القوى التي جعلت من هذا البلد بوّابة مشرّعة على التمدد والتوسع والتأثير في منطقة شمال إفريقيا والعالم العربي.
ثانيا الاستقرار السطحي لوضع الحريات العامة مقارنة بالفترة الاستبدادية المباشرة التي كانت تهيمن على المشهد التونسي منذ فترتيْ حكم " بورقيبة " و" بن علي " من بعده والتي طبعت سلوك الحكم الرئاسي المطلق للرجُلين. فحرية التعبير التي تميز المشهد الخارجي لا تكاد تخفي السعي الحثيث لدولة العمق من أجل استعادة القدر الأقصى من المساحة التي سُلبت منها خلال انفجار ديسمبر الكبير عبر أدوات وقنوات أكثر نعومة من القنوات القديمة وبشكل لا يتضارب بشكل مباشر مع الوضع الجديد. إنّ إغلاق المساجد وعزل الأئمة وإيقاف المدونين والتضييق على الجمعيات والسيطرة على وسائل الإعلام كلّها مؤشرات خطيرة على العودة الناعمة للمنوال القمعي بل إنّ حالات التعذيب التي يندد بها كل الناشطين في المجال المدني والحقوقي التونسي ـ وهي ممارسات عائدة بقوة إلى مراكز الإيقاف التونسية ـ هي ظواهر تستدعى كلّها إعادة تقييم وضع الحريات وصدق العدالة الانتقالية.
العنصر الثالث المفيد لمقاربة الحالة التونسية هو تفجر الوضع الإقليمي العربي على مستوى السطح بسبب القمع الكبير الذي واجه به النظام الرسمي السوري ثورة الشعب ومطالب الحرية ومكّن من تحويل الصراع من نضال من أجل الحرية إلى حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس وتحرق الجميع.
فالصراع المفتوح في منطقة الشام والعراق وحتى اليمن ليست إلا تداعيات مباشرة للقمع الدموي ولمنوالات الانقلابات التي صاغت مرحلة الثورات المضادة وعودة الدولة العميقة. ردود الأفعال الاستبدادية كشفت التحالف الخفي بين النظام الرسمي العربي والقوى الاستعمارية وخاصة الإمبراطوريات المتكالبة على المنطقة وعلى النفوذ فيها بعد ترنح الحارس القديم بفعل الثورات الأخيرة. هذا الوضع الإقليمي بثقله الجيوستراتيجي حيث تونس جزء وظيفي مؤثر في الخارطة يفرض على الحالة التونسية مسارات معينة تترجمها على السطح أوجه النفوذ المالي لدول عربية غنية داعمة للانقلابات ودول غربية ترى في خروج النموذج التونسي عن المنوال المحدد خطرا على مصالحها ونفوذها.
مساحيق التجميل الكثيفة من الجوائز و الاعترافات الدولية تذكّر بمرحلة سابقة لانفجار 17 ديسمبر حيث كانت تونس تقدّم على أنها منوال للحداثة ومعجزة اقتصادية ونموذج للتفتح والتوافق قبل أن ينفجر الوضع ويهرب الجلاد ويتحول مِخبر الحداثة إلى كومة قشّ تذروها الرياح وينكشف المشهد عن واحد من أشرس الأنظمة الاستبدادية.
عجز الحركة وتكبيل الرجلين بأثقال الديون وأغلال القروض الدولية لن يكون غير مسكّن وقتي لحالة الجسد التونسي العليل ومن ورائه كل الجسد العربي الذي لن يبطئ في الاهتزاز من جديد واستعادة المبادرة وانتهاج السبيل الحقيقي المؤدي إلى التحرر من أمراض الداخل ومن هيمنة الخارج. وليست ثورات الربيع العربي الأخيرة إلا مؤشرا أوليا على المخزون الجماهيري الهائل و الآخذ في التصاعد بفعل تراكم الانتكاسات وتجدّد الأجيال وتقاطع الشروط التاريخية والاجتماعية والحضارية مع رغبة الإنسان العربي في الحرية والعدالة.