الثورات سوانح في عمر الشعوب تفتح لها أبواب التغيير الجذري وهي ليست لعب أطفال يمكن استعادتها كل عشية في فراغ الوقت. والخوض في أمر التغيير الجذري ليس تمرينا فلسفيا مريحا. لكن يجب أن نذكر القارئ العجول بالنعجة المستنسخة دوولي؟. سأتحدث عن المواطن العربي (والتونسي) المستنسخ على طريقة النعجة دوولي حيث يصير التغيير خطأ بيولوجيا يجب تَوَقِّيه.
المواطن النعجة
سيقف البعض من القراء على المعنى البسيط الظاهر على احتقار المثقف للشعب وتعاليه بزعم معرفة كل شيء صائب. لكن الأمر أعمق من ذلك. يوم قامت الأنظمة السياسية بإخضاع شعوبها لضرورات العيش في الحد الأدنى والقبول بالموجود، على أنه الأفضل حتى يحين أوان التغيير، بأمر النظام ذاته. ولد المواطن النعجة من القبول الخانع لأمر الحاكم الخائف أكثر من غيره من إطلاق مسارات التغيير عبر إعادة بناء الشخصية.
اشتغلت المدرسة كمخبر استنساخ على نموذج واحد يريده الحاكم. نموذج المواطن القنوع الهادي الذي لا يعترض ويسَلّم بأن ما يفعله به الحكام هو الصواب. يتعلم درسه ويخضع لامتحاناته ويتقدم لعمله وينخرط فيها صامتا دوما. يخدم. يبني بيتا صغيرا. ينجب عددا محدودا من الأطفال. يضعهم على سكته في المدرسة العمومية. يتقاعد. ويقول في الأثناء الحمد لله ثم يموت ولا يتكلم. مواطن واحد بأسماء مختلفة وبفارق في الميزان والطول ونوع السكري في بدنه. بيته يشبه بيوت الآخرين ولباسه نفس اللباس. وحديثه لا يتغير في المكتب والمدرسة والمقهى وفي غرفة نومه. حتى غذاؤه توحي به التلفزة الرسمية فيأكل مما روجت له ولا يختار غذاء مختلفا ولو كان مفيدا.(نظام سياسي يُصَنِّعُ مواطنا على القياس)
المدرسة العربية والتونسية منها كما عرفتها ربت مواطنين متشابهين في مجمل سلوكهم وفي مسار تفكيرهم. وقد برمجوا ليكونوا كذلك. نسخا كربونية عما أراد الحكام. هو الذي صنع النموذج الأول. وهم يتكررون. فلما أن حدثت ثورة ظهر الأمر كخطأ في اشتغال النظام. فكان لا بد من العودة إلى تشغيله بنفس البرمجية خشية حدوث اضطراب ثان. وهنا قتل الثوريون ثورتهم ليعودوا إلى استنساخ أنفسهم لإعادة الحفاظ على النظام. فلم يكن الثوريون مختلفين في العمق عن بقية النسخ الكربونية خاصة منهم من زعم الانتماء إلى النخب المثقفة والمسيَّسة.
النتائج الكارثية على خيال الأفراد
النموذج الموحد قاتل للخيال وللتخيل. ونعني بالخيال القدرة على استنباط صورة للعالم. تكون مختلفة للنموذج مهما كانت إبداعيته. الحاكم يصنع صورة واحدة والخيال يخرج منها إلى غيرها ويكسرها متحديا. فيعدد في الحرية والتفكير والنماذج. الخيال ابن الحرية المنفتحة على النماذج المختلفة في الحاضر وفي التاريخ. يستقي منها ويعيد تركيبها طبقا لرؤيته المنفلتة من التنميط. العالم كله يصبح مصدرا للنماذج ومصادر للخيال فضلا عن القدرة الذاتية على التأليف والتخليق والاستنباط. لذلك يمكن أن نجد في مجتمع حر شعراء مختلفين وروائيين مختلفين وفنانين متعددين وموسيقات كثيرة. التعدد ليس التجميع أو التفسخ لكن الانفتاح والصهر وإعادة الإنتاج، وهو عمل غير نموذجي.
الثورات تطلق الخيال وتحرضه. فينتج. ينفلت. يبالغ في رفع سقف الحرية. يجر الناس الأحرار إلى مجاهل الحرية وهي عميقة وشاسعة. في الثورات يولد الفن الجديد. والرواية الجديدة والقصيدة الخارجة عن البحر والميزان والغرض. لكن وهذا غير ممكن في
تونس و(عند العرب) لأنه مؤشر على تغيير داخل الحرية. إن الحرية تهدد النموذج الواحد. من العسير على من تربى كالسائمة الإدارية الطيعة أن ينفلت في ثورة لأنه لا يتهيأ لها (فهي خروج وشذوذ) ومن الصعب أن ينخرط فيها وقد أطلقها غيره (ممن عاش في هامش النموذج واحتقره ملاك الصورة الرسمية) والحل الأصوب لدى حراس النمط أن يلجم الثورة/ الحرية ويعود بها حيث يستقر النموذج ويستقر هو في النموذج.(عملية التَّعليب المنهجية).
ولذلك من الطبيعي أن يعود فنانو بن علي إلى السيطرة على ركح قرطاج ويعيدوا نتاج فنونه نفسها التي هي فنون سلفه ومن قبلهم. وطبيعي أن يعلق له وريثه الأوسمة. إنها عملية بسيطة ومفهومة النموذج يحرس نفسه من كل احتمالات الإيمان بالحرية ويرمي في وجوهنا نسخا مكررة مما عرفنا ومن عفنا وقرفنا. وقد يقنا ألا حرية في بلد يمتلكون فيه آلة النسخ أو(مدرسة الزعيم). نموذج محافظ منغلق على ذاته ويخاف من التغيير لأنه لا يتخيل إلا الصورة المحفوظة. شعب سجين في قالب صنعه بالطاعة العمياء. لما هبت عليه رياح ثوره خاف واستكان.
الاستنساخ الآلي عدو التغيير
ما هو المطلوب وهل يمكن استيراد شعب من بلد آخر ليقوم بتغيير الحالة؟ سيقول الخبراء يجب تغيير منوال التفكير وهو جواب صحيح. لكن كيف يمكن تغيير المنوال بيد قوم يرفضون التغيير ويخافون نتائجه وفي أفضل الحالات الثورية يرفضون دفع ثمنه الغالي؟ إن النموذج استعاد آلة نسخه. وهو يسارع إلى ترميم ما كسره الأمل في التغيير الذي قدم من خارج الماكينة. وزارات التربية والتعليم والثقافة والماكينة الإعلامية الرسمية والمملوكة لرجال أعمال النموذج. هي محركات إعادة إنتاج النموذج وقد استعادها بلهفة لم يفهمها الكثير. تلك اللهفة هي التعبير الأوضح عن الخوف من التغيير. يجب أن نكون الآن كما كنا دوما. إنا وجدنا آباءنا وإنا على آثارهم. ولا بأس من بعض اتهام الآخرين بالأصولية والرجعية.
كيف يمكن تغيير منوال التفكير؟ الإجابة في المدرسة. لكن قبل ذلك يجب تحرير المدرسة من البرنامج التربوي (التعليمي) الذي يضعه الحاكم الذي يفكر لشعبه ويقترح عليه بقوة الدولة نسخة واحدة.
هناك مشروع كسر نمط التفكير السياسي الموحد للأفراد بغية إخضاعهم كجنود في ثكنة.
ما نراه الآن هو أن إصلاح التعليم يتم بيد مفسديه، الذين حولوه دوما إلى آلة نسخ على صورة واحدة. وكل ما يجري هو إعادة وضع أسماء مختلفة على الأشياء نفسها.
ماذا كان داخل الكراسات التعليمية؟.
حديث عن تاريخ بلد عمره 3 آلاف سنة مثلا. وحديث عن عبقرية تونسية خارقة للزمان والمكان.
وحديث عن الاستثناء التونسي الذي ينتهي عند السؤال عن الصانع إلى تمجيد الزعيم. دائرة مغلقة تعيد إنتاج معانيها لترضي نفسها ولتستقر دون طرح السؤال وماذا وراء الأكمة حيث يتغير العالم ويتطور ويصطنع لنفسه مكانة في العالم برؤية للعالم لا تستقر إلا لتتغير.(نظام يعزل شعبه بالتجهيل الممنهج).
يعيش التونسيون بفضل ما قرره الزعيم ذات يوم في كذبة كبيرة اسمها الاستثناء التونسي. يداعبون غرورهم بأمجاد لا دليل عليها. ينافسون العالم بالكلام فيما يستوردون إبر الخياطة من خارج الحدود. ولولا أن الفلاحين الأميين القابعين خارج النموذج (والذين ثاروا عليه) يوفرون الأكل للكثير منهم لكانوا الآن يتوسلون على أرصفة الغرب. ولقد هرب أبناؤهم إلى هناك بحثا عن هواء نظيف وخبر صادق. فحديث الاستثناء التونسي لا ينتج خبزا للعاطلين. ولكنه مخبر لإعادة استنساخ المواطن دولي المغرور.
أولى خطوات تغيير المدرسة المؤدية إلى تغيير النموذج هي التواضع للتاريخ ولنتائجه الكارثية التي أودت بحياة شعب إلى الركود المطلق. التونسيون شعب مغرور وراكد (وكل حركة فيه استثناء). يستعيض عن التفكير في المستقبل بتمجيد الماضي والاطمئنان إلى المكتسب بديلا عن شقاء التغيير وآلامه يستوي في ذلك كل طيف السياسة والفكر. ومشهده الثقافي والفني والتعليمي بعد الثورة هو مشهد محافظ وجبان مرعوب من التغيير. وكل لحظات الانتباه إلى ركوده وخوفه يترجمها بتمجيد زعميه ونموذجه عودا إلى عليسة وحنبعل. ولو وجد قبلهم تاريخا لمجده.