كتب مطاع صفدي: ما لم يستطع
العرب أن يفعلوه بشأن منع
الاتفاق النووي بين أمريكا وفريق حلفائها الأوربيين من جهة، وإيران في الجهة المقابلة، ما لم تستطع حتى الفئة المختارة منهم الموصوفة كونها من (عرب أمريكا) أن يكون لها حتى مجرد رأي مسموع منها خلال الزمن الطويل من التفاوض العسير وأزماته المتلاحقة، التي كان جلّها يهدد بتعطيل مبدئية الحوار وليس فقط بوقف التفاوض.
نقول إنه إذا افتقد العرب أية مساهمة في فرض أخطر سيناريو استراتيجي لمستقبل المنطقة كلها، فهل فقدوا كذلك القدرة على استعادة نوع التفكير المباشر بالذات من دون إلحاقها بحليف غريب؟
فالسؤال اليوم هل لا يزال بعض العرب يأمل بانتكاسة ما لعمليات تنفيذ البنود الصعبة للاتفاقية، قد تضطر أمريكا بعدها للعودة إلى زبائنها القدامى في المنطقة لتستأنف طبيعة العلاقات السابقة مع الأمراء والمشايخ المحليين، لكن تجربة التخلي الأمريكي ربما قد لقَّنت حلفاءها العرب درسا لن يمكنهم أن ينسوه.
فإذا كانت السياسة الدولية عمادها المحوري هو مبدأ الاعتماد المتبادل ما بين مصالح الدول، فذلك يتطلب أساسا تحقق الاعتماد الذاتي لأية دولة عازمة على استثارة حمية الآخر إزاءها لممارسة الاعتماد المتبادل معه. فماذا فعل العرب بأنفسهم حتى اللحظة الحاضرة من الزمن العالمي، في حين أن بعضهم الغني لا يزال يتابع هدر معظم ثرواته الفلكية في وعثاء توافه الحضارة ومغرياتها الخادعة؟
ماذا سيفعل العرب بعد التخلي الأمريكي؟ هذا السؤال بقدر ما يثير الخوف لدى من كانوا يُصنَّفون في خانة عرب أمريكا، فإنه في الوقت عينه يثير كذلك قلقا شبه عام لدى بقية العرب الذين كانوا يشكلون معظم الآراء والمواقف المضادة إجمالا للنفوذ الأمريكي، وتدخلاته المستمرة في كل شأن يخصّ المصالح الحيوية لشعوب المنطقة.
لكن هل قررت أمريكا حقا الانسحاب الفعلي من أدوارها القديمة، هل عزمت على إزاحة تلك الأدوار عن كاهلها وتوكيل دولة أخرى محلية في ممارسة أخطر محاورها الاستراتيجية، ليس بالنيابة عنها (أمريكيا) فحسب، بل، وعن ذاتها هي عينها؟
وهنا يأتي السؤال الآخر وهو: ما الذي جعل العقل الأمريكي يفاضل بين العرب والعجم ويختار الآخرين؟هل لأن هؤلاء، هم الذين اخترعوا وأسسوا النموذج الأول الأكمل لإعادة تصنيع ثقافة العنف الموصوف بالمقدس، لكي تعمّ تعاليمه وإجراءاته عالَم القرن الواحد والعشرين ومابعده؟ هل يمكن تسويغُ هذا الاختبار من أعظم دولة حداثية في العصر، بمجرد الارتجاع إلى منطق المصالح؟
ولعلّ أولى هذه المصالح يتمثل في منع التسلح النووي. هل تريد أمريكا، والغرب معها حماية هذا الشرق الأوسط من جحيم نووي مفترض حدوثه لو أن دولة أخرى، غير إسرائيل طبعا، في المنطقة قد حازت على هذا السلاح يوما ما؟ في هذا السياق يمكن إيراد السؤال التالي: هل تعتقد إسرائيل بإمكانية القيادة
الإيرانية التهديد باستعماله ضدها فيما لو تمكنت من صناعته؟
مثل هذه التسويغات الكبرى التي يستخدمها أطراف الأزمة بعضهم ضد بعض، لم ولن تكون سوى بالونات هوائية تغطي معالم المعركة الحقيقية الجارية على أرض الواقع الصراعي الفعلي؛ لنتذكر قاعدة رئيسية اعتادت منهجية الغرب استخدامَها إزاْء قضايانا المعقدة، وهي عدم مواجهة المشكلة المطروحة من خلال مصطلحاتها المباشرة المتداولة؛ إذ إن هناك مسافة ما بين كل ظاهرة ومصطلحها، والذكاء السياسي هو القادر على استثمار هذه المسافة لصالح نواياه العميقة، دون أن يضطر إلى استعراضها عبر تسويغات لا تحل شيئا حقيقيا في المحصلة.
وتبدو نظرية استيعاب الخصم بدل مقاتلته هي تحفة اللُقْيا للفكر الاستراتيجي الذي يتمتع به الرئيس الأكاديمي "
أوباما"، وقد طبقها على "ثورات" الربيع العربي، فحوَّل معظمها إلى ما يشبه مصارع أهدافها قبل أن يرى النورَ أَحدُها. ثم عندما انخرط في معضلة التجهيز النووي الإيراني، كان منشغلا بإنجاز التجهيز المذهبي كبديل عنه، وسوف يكون موكولا إليه الإجهاز المعمم على مبدئيات كل ثورة عربية شعبية، إذ سوف يقلبها إلى بؤرة انتحارية بغرائزها وروادها وأفكارها.
يستطيع "أوباما" أن يواجه عُتاة معارضيه من أهل السياسة والثقافة في بلاده خاصة، كلما ساءله لسان حالهم: لقد كان الوحش سجينَ قَفَصِه، فلماذا أطلقتَ سراحه؟ ولعلّه يجيب: أطلقنا الوحش الأكبر ليقضي على الوحوش الفالتة الأخرى في الغابة.
غير أن هذه اللوحة الداكنة لم يكن ليتضاءل مفعولها المعنوي سريعا، كما هو الأمر حادث ومسيطر في الإعلام والأندية السياسية، لم تكن منجزات "أوباما" صناعة شخصية فحسب، إن لم تكن مغطاة مقدما بالأجنحة الشفافة للمؤسسة الحاكمة العميقة لأمريكا.
هناك من يرى أنه في تقدير مؤسسة الحكم، أن أمريكا قد استنفدت صيغة الوكالة الحصرية المتمثلة في إأسرائيل وحدها على منطقة الشرق الأوسط؛ فلا بأس إذن بوكالة ثانية يمكن وصفها بالأهلية والتاريخية لبلد آخر قديم في المنطقة كإيران. ما يخيف إسرائيل ليست هي إيران، اليوم أو غدا، بل إنها أمريكا، الراعية العظمى للدولة العبرية، إذ يشعر صهاينة "تل أبيب" أن أمريكا ليست في وارد دعم إسرائيل إلى ما لانهاية.
بل إن أمريكا (العميقة) أمست تعتَقد بعَرضية الوجود الإسرائيلي وليس بجذريته المطلقة، وإن هذا الاعتقاد كان دائما له وجوده، لكنه ممنوع من الفعل. أما التغيير الأخير مع الاتفاق النووي الإيراني، فلقد أضحى توأَمُ إسرائيل جاهزَ الحضور، أو إنه على وشك أن يغدو هو بديلَها المحتوم.
وبَعْدُ، هل تخلّت أمريكا عن العرب.. أو إنها باقية لهم في المرصاد دائما، وسوف تأتيهم كلما عصفت بهم كارثة بعد أخرى، وأخطرها إطلاقا مشروع إعادة تصنيع العرب مذهبيا. عندئذٍ لن يأتيهم "أوباما" أو أمثاله من الرؤساء القادمين، إلا وقد أمسى العرب شذر مذر، مجرد واحات بائسة متناثرة في صحاريهم.
(عن صحيفة القدس العربي 27 تموز/ يوليو 2015)