قضايا وآراء

"من السرية إلى السرايا" أمام تحدي الرواية

زياد ابحيص
1300x600
1300x600
ليس سهلا أن يشرع المرء في توثيق تجربة نضالية فلسطينية في زمن الاستقطاب الذي نعيشه اليوم، ويمسي تحدي الرواية أبرز التحديات التي تواجهه؛ فمن يتصدى للرواية مؤتمن على إخراجها كما تحدثت عن نفسها، لا كما تفرض عليه استقطابات الواقع المعقد روايتها.

ولعل بناء رواية أمينة وموضوعية لتجربة السرية الطلابية التي تحولت إلى كتيبة الجرمق وانتهت إلى سرايا الجهاد الإسلامي محاطة بتحديات عدة: فالتحدي الأول هو تحدي ندرة الروايات، ونقص الأرشيف والصور نظراً لأن القادة الأبرز والأبعد أثرا في تلك التجربة قد استشهدوا خلالها، ونظراً للحس الأمني الذي كان يحكمهم في مواجهة التحدي اليومي الذي يخوضونه، والذي كان مقدماً على مستلزمات توثيق التجربة، والتحدي الثاني –وهو الأبرز بنظري- أنها تجربة جعلت بوصلتها تحرير فلسطين، وجعلت توجيه فوهة البندقية نحو العدو الصهيوني غايتها الأولى في زمن غابة البنادق التائهة، ولم تزل البنادق حتى يومنا هذا تتردد بين تيه واقتراب من وجهة السرية الطلابية، أما التحدي الثالث فهو أن مقاتلي السرية وأفرادها من مختلف الجنسيات والأديان والمذاهب، الذين جمعتهم وضوح رؤية السرية الطلابية ومصداقيتها كحالة مقاتلة تنجح في التصدي والانتصار، تفرقوا بعد انتهاء هذه التجربة بين مشارب وتيارات وأحزاب شتى.

جاء فيلم "من السرية إلى السرايا" الذي عرضته الجزيرة الوثائقية في التاسعة من مساء الجمعة 5-6-2015 ونفذته شركة جولدن فيجين في لبنان وأخرجه علي شرف الدين ليخوض غمار هذا التحدي، وليحاول توثيق تلك التجربة الفريدة والثرية. استفاد الفيلم من رواية شفوية مباشرة من عدد من أعضاء السرية الطلابية ومؤسسي الكتيبة الأحياء، وحاول أن يتنقل بين لبنان والأردن وفلسطين وقبرص عله يجمع شتات الرواية، وقد جاء إنتاج هذا الفيلم لاحقاً لكتابات توثيقية نادرة قدمها بعض من عاصروا تلك الرواية، بينها كتاب شهداء ومسيرة لمنظر هذاا التيار والمعبر عن فكره منير شفيق، وكتاب حياة غير آمنة للدكتور شفيق الغبرا، أحد الذين عاصروا تلك التجربة. وقد صدرت خلال وبعد إنتاجه كتابات توثيقية أخرى، أضافت جزءاً من شتات الرواية.
 
ثراء التجربة يضيع في متاهة الأحداث

حاول الفيلم أن يؤرخ لتجربة ثرية جداً من بداياتها الأولى بعد خروج منظمة التحرير من الأردن إثر حرب أيلول عام 1970، إلى نقطة نهايتها الحقيقية عام 1988 باستشهاد قادتها الأساسيين ورموزها الفاعلين: محمد محمد ابحيص (واسمه الحركي المعروف هو أبو حسن قاسم)، ومحمد باسم التميمي (واسمه الحركي حمدي)، ومروان الكيالي؛ الذي ذكر مرة واحدة في نهاية الفيلم ضمن القادة الشهداء ولم يذكر لنا الفيلم أثره في تلك التجربة التي اكتشفنا في النهاية أنه كان من قادتها. صنعت هذه التجربة ملاحم متعددة، من الدفاع عن الثورة ومحاولة تصحيح بوصلتها في صنين، إلى مواجهة العدو مباشرة في بنت جبيل ومارون الراس في تجارب متتالية من 1978 إلى 1982 مروراً بأسر ثمانية جنود ومبادلتهم عام 1983، كما صنعت هذه التجربة ملاحمها في الداخل من عملية دلال المغربي إلى عملية الدبويا في الخليل إلى باب المغاربة عام 1986 ومحاولة عطاف عليان الاستشهادية لتفجير مبنى الكنيست عام 1987 وعملية الشجاعية للشيخ مصباح الصوري ورفاقه التي يؤرخ الجهاد الإسلامي لبداية الانتفاضة الأولى بها في العام ذاته.

بدا الفيلم تائهاً بين الأحداث، ومحتاراً بين الرواية الفكرية للنهج والبوصلة، وبين التأريخ العسكري للتجربة، وبين الحرص على رواية الأحداث، فلم يتمكن من بناء رواية متماسكة عن أي منها، وبدت الأحداث المتلاحقة خالية من الروح التي تروي قيمتها كمحطات لتطور هذه التجربة، وما أضافته فيها وما ترتب عليها من تطورات في هذا التيار من حيث النوعية والخبرة والفكر.

الرواية واختبار الانتقائية

ركز الفيلم على المراحل الأولى والثانية للتيار، ومرر تجربته بين عامي 1982-1988 وكأنها "ملحق"، خُصصت له الدقائق الأخيرة من الفيلم، بلا صورة ولا أرشيف ولا حتى ضيوف يمثلون تلك المرحلة. ست سنوات من أصل 15 سنة هي العمر الإجمالي لتلك التجربة؛ أكثر من ثلث عمرها، مرّ كـ"ملحق" رغم أنه كان الحقبة الأهم والأبرز: حقبة بناء سرايا الجهاد الإسلامي، حقبة الممارسة الجهادية من أرضية الإسلام، حقبة مد خطوط التعاون مع الإخوان المسلمين والشهيد عبد الله عزام، ومع الجهاد الإسلامي والشهيد فتحي الشقاقي، حقبة عمليات نوعية زرعت فكرة المقاومة في الضفة الغربية وغزة من باب المغاربة إلى عطاف عليان فمعركة الشجاعية، حقبة الرسائل لإجابة تساؤلات أسرى هذا التيار حول الماركسية والإسلام من وراء القضبان. هذه المرحلة التي لم تجد لها مكاناً في الفيلم هي التي سمحت بتجلّ جديد لهذا التيار بعد وفاة تجربته التنظيمية والعسكرية، إذ تجلى في الانتفاضة الثانية في كتائب شهداء الأقصى التي قادها أبناؤه العائدون بعد اتفاق أوسلو، من الشهيد جهاد العمارين في غزة مروراً بالشهيد مروان زلوم في الضفة الغربية، إلى الشهيد ميسرة أبو حمدية الذي نعته فتح وحماس معاً في زمن الانقسام.

رفاق الدرب واختبار البوصلة

لقد كان وضع تحرير فلسطين في قلب البوصلة، وفوق كل ولاء وانتماء الميزة الأولى لهذا التيار، وكانت البندقية التي تتجه إلى العدو الصهيوني قولاً وفعلاً هي أساس مصداقيته، ومادة جاذبيته الاستثنائية للطلاب وجيل الشباب، وللجماهير عموماً، وكانت هي مفتاحه للأبواب الموصدة، فصِدق هذا التيار في تمثيل هذه البوصلة هو الدافع الذي جعل الجميع يتعاونون معه، ويفتحون له ما يوصد في وجه غيره من أبواب، حتى أن قادته أداروا عملاً جهادياً في الأرض المحتلة من الأرض الأردنية في مرحلة من أصعب المراحل.

شهادات رفاق الدرب، الأحياء الذين عايشوا التجربة وعرض الفيلم روايتهم عكست شيئاً آخر: فمحمود العالول يقلل من قيمة سرايا الجهاد، ويراها تجربة مؤقتة وانتهت، ويرى من موقعه في قيادة فتح بأن فتح كانت الحاضن الأول والأخير لهذا التيار، بينما يروي لنا الفيلم بشكلٍ مقحم أن نشأة المقاومة الإسلامية وحزب الله في لبنان شكلت تجلياً بديلاً وجد فيه أفراد هذا التيار أنفسهم، ويشهد بذلك رضوان الشحيمي، بينما يقول منظّره منير شفيق بأن نشأة الجهاد الإسلامي وحماس شكلت بديلاً لسرايا الجهاد، فلم تعد الحاجة لها قائمة. كشف لنا رفاق الدرب عن قراءتهم لتجربة التيار كلٌّ من موقعه الحالي، فلم يتمكنوا من أن يشكلوا بروايتهم تجسيداً أميناً للتجربة التي تعلي تحرير فلسطين فوق كل اعتبار. كل من خاض تلك التجربة وقاتل فيها له ما قدمه، وما يستحق الاحترام من تضحيات، وله الحق بعد أن انفصمت عراها أن يمضي في طريقه التي يرتأيها، لكن الجماهير التي آمنت بها والتفت حولها، والشهداء العظام الذين قادوها وقضوا في سبيلها لهم الحق في أن تروى تلك التجربة بأمانة، كما عبّرت عن نفسها، وكما تجلّت على أرض الواقع، لا كما يراها رفاق الدرب من حيث يقفون اليوم.
التعليقات (4)
د.تيسير جرادات
الأحد، 07-06-2015 01:21 ص
هذا كلام اقل ما يقال به انه موضوعي،ومبني على منهجيه علمية وتحليلية ؛وبغض النظر عن بعض المطبات في بنية الروايه،ا? انها سلطت الضوء على تجربة عز نظيرها،و?ن الذاكره تفقد وتكاد تنسى ا?حداث؛ا? ان شرف المحاولة يستحق التقدير،ان الرواية الشفوية،والتاريخ المحكي عن هذه التجربة،يظل ابلغ واكثر م?مسة لعمق الحقيقة،لكنه يظل محصورا بين من عاصروا التجربة وامتدادهم المحدود،اما ان تفتح فضاءات جديدة ليصل متن الرواية الى افاق ابعد،ويطلع عليها من لم يعلم كيف كانت الط?ئع تمسك بناصية المجد،وارادة العمل الثوري وبقيمة ا?نسان ودوره في تغيير الواقع،واهم من ذلك ا?ستعداد الدائم للتضحية،فتلكم ايجابية مقدرة وجهد يشكر عليه من عمل ومن ساعد ومن استذكر،ومنع عاش لحظات اعادت الينا بعضا من الروح،ممزوجة بحزن وفخر؛وبامل ? ينضب.
حمزة تيسير ابو سنينة
السبت، 06-06-2015 05:46 م
نقدك للفيلم اكثر من رائع رحم الله والدك واخاه حمدي سلطان واخاهم مروان كيالي فهل يكرر الزمن امثالهم
رشاد الكاسر
السبت، 06-06-2015 01:30 م
الشهيدين البطلين ابو حسن قاسم وحمدي سلطان(الرجل وظله)كما كنت أسميهما انهما توأم روح في جسدين تنبأت لهما بالشادة معا وهكذا كان هنالك أمور وأحداث كثيرة لايعرفها إلا من عمل معهما وكان اول التصاق لهما مع الشهيد الحاج حسن وعملوا معا وكان هنالك جن ود مجهولين عملوا ليلا ونهارا في الاعداد والتدريب لايكفي تعليق على مقال لسرد كل الاحداث والوقائع انه تاريخ يمبد لما يقارب العشرون عام وليس خمسة عشر عام اتمنى لقائك ايها الحبيب ابن الحبيب زياد لنتحدث كثيرا فلدي ما أقول. كان آخر لقاء لي بالحبيب حمدي رحمه الله في مخابرات عمان حيث طلب منا مغادرة الاردن خلال اسبوع.حذرته من السفر الى قيرص ولكن سبق السيف العدل رحمهم الله واسكنهم فسيح جنانه وجمعنا بهم في مستقر رحمته آآآآآمين
عطالله ابوربيع
السبت، 06-06-2015 12:50 م
كلام في غاية الروعة ولكن اود ان اقول بان الاستاذ منير شفيق وكذلك الاخ معين من اكثر الناس وفاء للشهداء ولا يفتؤون يذكرون بطولاتهم صباح مساء وينسبون اليهم الفضل بالتجربة وبالانجازات والتضحيات والبطولات ...يتحدثون عن ابوحسن و مروان وحمدي وعلي ابو طوق ...كما نتحدث عن الصحابة انا سمعت هذا الحديث مرارا وتكرارا ولكن ما يعاب على الفيلم ان الوقت اضيق من تطرح الفكرة وتوضح الصورة بكامل ابعادها وانا انظر للموضوع على انه انجاز مهما كان متواضع الا ان فيه اضاءة مهمة مهما كانت بسيطة على واحدة من اهم التجارب النضالية ولك كل التقدير والشكر على التوضيح والشكر للجزيرة وللاخوة الذين اسهموا في توثيق هذه التجربة