كتاب عربي 21

ليبيا ومصير الثورة

محمد هنيد
1300x600
1300x600
تمثل الثورة الليبية فاتحة الموجة الثانية لثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس، حيث مثلت الثورتان التونسية والمصرية الموجة الأولى، التي تميزت بسلميتها، وقدرتها على إسقاط رأس النظام، دون اللجوء إلى قوة السلاح.  

دفعت جرائم القذافي وترويعه لليبيين الثورةَ الليبية إلى مواجهة كتائبه الدموية بالسلاح من أجل منع العديد من المجازر التي كان ينوي تنفيذها في كثير من المدن الليبية. هكذا نجحت ثورة 17 فبراير المجيدة، فيما لم تنجح فيه الثورة السورية إلى اليوم، وتمكنت من الإطاحة برأس النظام، على عكس الثورة السورية، حيث سارعت القوات الإيرانية إلى إنقاذ حديقتها الخلفية من السقوط، وإبقاء حليفها في السلطة، عبر الدفع بآلاف القوات المسلحة والكتائب المقاتلة إلى الداخل السوري، وعلى رأسها فيلق القدس، ومليشيات حزب الله الطائفية. 

لكن تسارع الأحداث في الجوار الليبي عقب الثورة، وخاصة من جهة الشرق من خلال الانقلاب المصري على الشرعية عقّد الأوضاع الليبية، وألقى بظلاله على المسار الانتقالي من خلال ثلاث واجهات رئيسية. 

تمثلت الواجهة الأولى في اتخاذ عناصر النظام الليبي القديم من الأرض المصرية قاعدة لزعزعة الأوضاع في الداخل، وتحريك الخلايا النائمة لنظام القذافي، من أجل إسقاط الشرعية، وبث الفوضى، باعتبارها الأرضية الملائمة للحد من مطالب ثورة فبراير، ومنع الانتقال إلى وضع أكثر استقرارا.

أما الواجهة الثانية فتتجلى في تآمر عسكر مصر على الثورة الليبية، ومحاولة تصدير الانقلاب أو المناخ الانقلابي، من أجل إلحاق المشهد الليبي بالمشهد المصري، ووضع اليد مستقبلا على جزء من الثروات الباطنية في هذا البلد الغني بالنفط.

تنعكس الواجهة الثالثة في تدخل قوى إقليمية عربية غير دول الجوار المباشر، وهي دول خليجية ساندت الثورات المضادة، ومدتها بالمال والسلاح، خوفا من وصول موجات التغيير العربي إلى أرضها، في حين هي تواجه اليوم عدوا أشرس، متمثلا في التمدد الإيراني الفارسي، وخنقه المنطقة العربية الشرقية برمتها. 

الأحداث الأخيرة التي ترجمها التصعيد العسكري على مدن الغرب الليبي، وخاصة مدينة طرابلس، وقصف مطارات المنطقة الغربية، وصولا إلى منطقة "العزيزية" جنوب العاصمة طرابلس، تنبئ بخيارات جديدة لمسار الانقلاب الذي يسعى على استثمار أقصى لحالة الفوضى.

فجولات الحوار تدور بعسر كبير في منطقة "الصخيرات" بالمغرب، وهي تشهد تجاذبا كبيرا بين طرفي الصراع الدائر على الأرض، رغم الإشادة الدولية بهذا الحوار، وبقدرة الليبيين على الخروج منه بقرارات حاسمة، خاصة أن الخيارات المطروحة اليوم بدأت تضيق وتهدد بالانفجار وبلوغ نقطة اللاعودة، في ظل توتر غير مسبوق بين طرفي النزاع. 

من جهة أخرى، فإن كثيرا من المؤشرات القادمة من المغرب تشير إلى أن الضغط الدولي على الطرف المعرقل للحوار بدأت تحقق نتائج قد تسمح بالتوصّل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية طريقا إلى تعبيد مسار انتقالي أقل تشنجا وإراقةً للدماء وتهديدا للجوار الإقليمي وللمنطقة كلها. 

فاللهجة التصعيدية للمبعوث الأممي الخاص لليبيا "برنارد ينو ليون" تجاه وزير حكومة طبرق "عبد الله الثني"، ووصفه بأنه "أصبح يتحرك خارج الشرعية"، وأنه سبب من أسباب عرقلة الحوار، مؤشر هام على تعيين الطرف المعرقل للمسار الانتقالي، وعلى تناقض مبدأ الحوار مع الهجمات التي تشنها "جماعة الكرامة"  ممثلة في "جيش القبائل" المكوّن من "لواء الصواعق" و"لواء القعقاع" على المدن الآمنة، خاصة في الغرب الليبي.

ولا تقتصر العمليات العسكرية في ليبيا على منطقة طرابلس، بل تتعدها إلى حرب قوات الثورة الليبية بقيادة "فجر ليبيا" مع تنظيم الدولة الذي اتخذ من مدينة سرت -مسقط رأس القذافي- مركزا لانطلاق عملياته الإرهابية، وهو تنظيم تقوده -حسب تقرير أخير لصحيفة " الاندبندت" البريطانية- قيادات من الحرس القديم التابع لنظام القذافي.    

هكذا لم ينجح أي طرف من طرفي النزاع الدائر هناك في حسم المعركة لصالحة، سواء بالنسبة لقوى ثورة فبراير المدعومة بزخم شعبي كبير، أو التيار الانقلابي المدعوم من قبل قوى إقليمية ودولية، تضع الثروات الليبية نُصب أعينها ،وتسعى لمنع أي تغير سياسي ديمقراطي في المنطقة العربية، عبر استعادة آليات حكم العسكر. 

يبقى الحوار آخر المخارج الممكنة للثورة الليبية بعد فشل الحسم العسكري على الأرض، وهو ليس خيارا اليوم بقدر ما هو ضرورة ملحة تستطيع أن تمنع وحدها مخاطر الانزلاق نحو حالات مثل التي نرى في المنطقة العربية في سوريا أو في العراق أو في اليمن. 

جوهر الحوار هو سعي الأطراف المتنازعة إلى تجاوز الخلافات الشكلية التي تخفي في الحقيقة مصالح قوى دولية في الأرض الليبية، والسعي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من سلم اجتماعي ووحدة وطنية هي أهم الضمانات أمام تحرك الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى البحث عن موطئ قدم في ليبيا. 

هذه الجماعات هي العنوان الأبرز لهندسة الفوضى الجديدة الساعية إلى الدفع بها نحو مغرب المنطقة العربية، لإلحاقها بالمشرق الغارق في الحروب والفوضى، من أجل تسهيل السيطرة عليه وعلى ثروات أبنائه. 

إن نجاح الحوار الوطني الليبي، وقدرته على إيقاف حالة الفوضى والتقاتل، هو البوابة الوحيدة للخروج من مخاطر حرب أهلية قد يدفع الليبيون ثمنها لسنوات طويلة، وهو ما يجعل من إنجاحه واجبا وطنيا وحتمية لا هروب منها لمن يرفعون شعار ليبيا أولا.
التعليقات (0)