قضايا وآراء

الدين بين العدل والنص

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
لعل أحد أهم إشكالات الفكر الديني المتشدد الذي نرى تجلياته في ممارسات وحشية تقترف بتبرير ديني هو التمسك الحرفي بنصوص دينية، ومحاولة استنساخها حرفياً دون مراعاة اختلاف الظروف بين النص والواقع.

يحاول بعض الإسلاميين تبرئة الإسلام من التهم الملصقة به عبر البحث عن علل تقدح في النصوص التي يستند إليها المتطرفون، لكن هذا المدخل يبدو غير كاف، ذلك أننا مهما رددنا من أحاديث فإنه ستظل في النهاية هناك آثار صحيحة السند لكن تطبيقها في واقع اليوم تحوم حوله إشكالات عديدة، وهو ما يطرح سؤالاً حول ضرورة وجود مدخل آخر لفك إشكالية تطبيق النصوص الدينية في واقع اليوم.

السؤال الأساسي لحل هذا الإشكال: هل النصوص الدينية غاية في ذاتها أم أنها وسيلة لتحقيق غاية؟

هناك مقاصد عليا في القرآن الكريم مثل الرحمة: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"، والعدل والإحسان: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، والله تعالى حين يسن تشريعات في القرآن فإنه يربطها بغايات أعلى: "لعلكم تتفكرون"، "لعلكم تتقون"، "لعلكم تعقلون"، "لعلكم تشكرون"، هذا يعني أن التشريعات الجزئية ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية أعلى في الحياة الإنسانية تنبع من داخل الإنسان وليس من سلطة النص الخارجية مثل التقوى والتفكر والعقل والشكر..

الدين ليس نصوصاً وحسب، والسبب ببساطة هو أن النصوص محدودة بينما الحوادث الإنسانية لا متناهية..

لم يأت الأنبياء بالنصوص وحدها، بل جاءوا بالكتاب والحكمة: "وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"، فالنص المجرد يتطلب حكمةً بشرية لتضعه في موضعه الصحيح بما يحقق مقاصد الدين العليا.

النص هو قناة تواصل الله مع عباده، لكن كلام الله أوسع من كل نصوص الكتب السماوية وأقوال الأنبياء: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً"..
الدين في المقام الأول هو معان روحية واستقامة أخلاقية، والنص هو الجانب القانوني في الدين، لكن الإنسان يهتدي لمعاني الصدق والعدل قبل النصوص ثم حين تتنزل عليه النصوص فإنها تضبط مؤشره الداخلي وتلتقط نفسه المحسنة إشارات الرادار الإلهي لتنتفع بها: "ويزيد الذين اهتدوا هدىً".

تفطن ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: "حيثما كان العدل فثم شرع الله"، لا تقل لي أعطني نصاً، يكفي أن أعرف بفطرتي السليمة أن هذا حق وعدل ليطمئن قلبي إلى أن هذا هو مراد الله وإن لم يأت به نص.

حين نتناول القرآن فإن علينا أن نتناوله في إطار أوسع وهو إطار العدل في معناه الفطري، إن النصوص هي مقاربات لمعنى العدل في السياق التاريخي لتنزلها، وحين تتغير هذه السياقات فإننا نحتاج لمقاربة جديدة لضمان أن النصوص لا تزال فاعلةً في تحقيق وظيفتها الأعلى: "ليقوم الناس بالقسط".

السياق التاريخي لتنزل النص يلعب دوراً في فهم دلالة النص وفي التفريق بين روحيته وزمانيته، وفك هذا الالتباس هو الذي يسمح لنا بتجديد مفاهيم الدين بما يضمن بقاء تحقق العدل والرحمة والحكمة حين تختلف الظروف المستجدة عن زمن تنزل النص الإلهي.

ينظر الناس اليوم إلى الرق بأنه جريمة كبرى، ولا يمكن أن يتقبل الوعي البشري أن يستعبد إنسان إنساناً، لكن قد يفاجأ كثيرون إذا علموا أن الظروف التاريخية التي ابتكر فيها الإنسان نظام الرق جعلت منه نظاماً محققاً للعدل آنذاك! يقول المؤرخ الشهير وول ديورانت: " وقلَّ أكل الناس بعضهم لحوم بعض كلما زاد نظام الرق اتساعًا. وإذن فقد تقدم الإنسان من حيث الأخلاق تقدمًا عظيمًا حين أقلع عن قتل زميله الإنسان أو أكله، واكتفى من أعدائه باسترقاقهم."

لقد كان اختراع نظام الرق في فجر التاريخ خطوةً إلى الأمام، إذ انتقل الإنسان من مرحلة أكل الأسير إلى مرحلة أقل سوءً تتمثل في إبقائه حياً وتكليفه بالمهمات التي تخفف عن السيد أعباءه.

إن من الصعب على البشرية أن تستوعب العدل بمعناه المثالي الكامل دفعةً واحدةً، لذلك فإن البشر يقاربون العدل حسب ما تسمح به ظروف كل مرحلة تاريخية، وإذا كان أقصى ما يمكن أن يتصوره البشر في أزمنة خالية من معاني العدل أن يحسنوا معاملة عبيدهم، فإن التطور الاجتماعي البشري اليوم وسع آفاق العدل، فصار نظام الرق بكليته مرفوضاً.

مشكلة الحرفيين أنهم لا يراعون نسبية السياق التاريخي، وينشغلون بحرفية النص عن تدبر سياقه ومقصده الأعلى، والنظر إلى الدين بأنه نصوص وحسب يدخل هذه النصوص في حالة من الصنمية فتتعطل قدرة هذه النصوص عن تأدية الوظائف التي كانت تؤديها في مرحلة تنزلها.

تفطن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن الدين أوسع من النصوص، وإلى أن الله يريد منا مقاربة العدل والتقوى وليس التقيد الحرفي، فكان عمر مبادراً لإدخال كثير من التجديدات الفقهية حتى وصل به الأمر أن رد نصوصاً قرآنيةً صريحةً، ليس تكذيباً بالقرآن حاش لله، بل لأنه فقه المقاصد القرآنية العميقة التي تتجاوز ظواهر النصوص، مثلاً فقد عطل عمر سهم المؤلفة قلوبهم رغم صراحة الآية التي تشملهم في مصارف الزكاة، وعلل ذلك بأن الدين قويت شوكته فمن أراد أن يسلم فليسلم اقتناعاً،، هذا الفقه العظيم ما كان ليجرؤ عليه عمر بن الخطاب إلا بإدراكه لما بعد النصوص ولتجاوزه الفهم القانوني الحرفي للقرآن.

إن المدخل الصحيح لحسم كثير من الجدل المثار اليوم لا يكون عبر مناقشة حرفية النصوص، بل بمغادرة هذا المربع كلياً، وبالبحث عن مقاربات جديدة لمعاني العدل والحكمة والصلاح في ضوء تفكيك واقعنا المعاصر وفهم عناصره السياسية والاجتماعية والثقافية، وبعد ذلك استلهام روح النصوص لا حرفيتها وإسقاطها بما يضمن تحقيق العدل والرحمة والحكمة والمصلحة، فإن كانت المحصلة عبثاً وجوراً ومفسدةً فهذا ليس ديناً وإن دللنا عليه بمئات النصوص.

* كاتب فلسطيني.
التعليقات (6)
محمد الوالي
السبت، 14-02-2015 05:04 م
عزيزي أ. أحمد،، أتفق معك في ضرورة وجود حل لإشكالية تطبيق النصوص الدينية في واقع اليوم، لكن على أساس من الفهم الصحيح الدقيق لمراد الله من النص حرفاً وقصداً وروحاً، وليس باستثناء حرفية النص والخروج من هذا المربع فهو قول محذور، وكذلك على أساس واضح وقواعد سليمة صحيحة من الاجتهاد فيما لا نص فيه، وليس الاحتكام للفطرة السليمة معيار في القبول والرد، وبإمكاننا الاستفادة في دعوانا لتطبيق النصوص على الواقع من السنة النبوية - وهي الحكمة كما فسرها العلماء- والتي جاءت مبينة ومفصلة ومطبقة عمليا لمراد الله.. نحن بحاجة أخي الحبيب في فهمنا للإسلام إلى: - الجمع بين السلفية والتجديد. - الموازنة بين الثوابت والمتغيرات. - التحذير من التجميد والتجزئة للإسلام. - الفهم الشمولي للإسلام. وقد أشار إلى ذلك الشيخ القرضاوي في مقالته الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية والحاجات المعاصرة ... تحياتي لك ويعجبني طرحك لبعض الأفكار والقضايا المعاصرة لمحاولة الاستفادة والإفادة، ولكن تذكر دائما في طرحك لأي فكرة بأنها بين القبول والرد، والخطأ والصواب، وليست في ميزان القالب الثابت المقبول... فما منا إلا راد ومردود عليه.. وبالله التوفيق..
محمد مصطفى
الخميس، 12-02-2015 12:45 م
أخي أحمد، تقول في مقالك: "يحاول بعض الإسلاميين تبرئة الإسلام من التهم الملصقة به عبر البحث عن علل تقدح في النصوص التي يستند إليها المتطرفون، لكن هذا المدخل يبدو غير كاف" أختلف مع قولك أن هذا المدخل غير كاف، حيث أرى أن المشكلة الحقيقية أننا كمسلمون نقف في موقف المدافع أصلا! ومن نصفهم بالمتطرفين (اتفقنا أو اختلفنا على تطرفهم) هم في الواقع في قمة التحضر والاعتدال في مقابل من يصفونهم بالتطرف! نحن نعيش في عالم لا يحترم إلا القوي الذي يستطيع أن يفرض منطقه! وجزء من هذه القوة هي قوة الإعلام الذي يستطيع صناعة المصطلحات وتقنينها، وكما كتبت أنت في مقال سابق عن "سلطان الأسماء" فكثير مما كتبت في مقالك الحالي هذا يحتاج لمراجعة التسميات. كما لدي تعليق أيضا على مقولة: "مشكلة الحرفيين أنهم لا يراعون نسبية السياق التاريخي، وينشغلون بحرفية النص عن تدبر سياقه ومقصده الأعلى"، للأسف جزء من مظاهر الضعف التي نعاني منها في عالمنا الإسلامي اليوم هي ندرة الحرفيين الذين تتكلم عنهم، كما صرنا في ذيل الأمم في كل العلوم فإن نفس الضعف والوهن أصاب علماء الدين فغاب الحرفيون، القيم والمقاصد العليا التي تتكلم عنها هي أساسات راسخة في ديننا بنى العلماء الأولون مذاهبهم عليها وفصلوا تفصيلا في أسسها، لكننا - وبسبب ضعفنا المخزي - عجزنا أن نخرج علماء مقاصديين يستطيعون معالجة ما جد من مسائل وأمور معاصرة، ومن الواضح أن علم المقاصد الذي أنتج غزارة فقهية لم يزدهر وينتج إلا في عصور قوة المسلمين حيث كان للعلم قيمة وللعلماء منزلة عالية أتاحت لهم التفرغ للبحث والتعلم ونزّهتهم عن الطلب من السلاطين فضلا عن الخوف منهم
د.محمد
الخميس، 12-02-2015 11:03 ص
عجبا من تكلم في غير تخصصه أتى بعظائم المقال ينم عن جهل بالنص والتاريخ والواقع وجهل بطرق الاستنباط وكيفية استفادة الأحكام من النصوص ما يفعله الغرب بالمسلمين الآن هو عين العدل عندهم لو ترك تحديد العدل لكل إنسان لكانت معانيه بعدد البشر ألا تعلم أنه متى عاد التعليل على أصله بالإبطال بطل في نفسه إذا بطل النص بطل القصد لنكن حذرين من القول على الله بلاعلم قال الله تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين
عمر
الأربعاء، 11-02-2015 08:35 م
قرأت المقالة لأرى الى أين وصل احمد ابو رتيمة في تفكيره الانهزامي.
احمد المنصور
الأربعاء، 11-02-2015 01:02 م
تنبيهات: -الحكمة هي السنة النبوية من الاقوال والافعال -الفطر تحتاج من يستدل لها انها سليمة -الفطر السليمة ليست ادلة مستقلة بنفسها -الفطر السليمة ليست شرعاً يُستدل بها - الاستدلال بالفطر ولو خالفة النص من عبادة غير الله وتأليه الفطر والتحاكم الى طاغوت جديد -النصوص الشرعية هي عين مراد الله وليست مقاربات او معاني فضفاضه -تجديد مفاهيم الدين تساوي ايجاد دين جديد -عمر لم يلغي المؤلفة بل لم يجدهم في الواقع - مغادرة المربع كلياً مغادرة للدين ولذلك لم يتقحمه العلماء والمقلدين والعوام.. فقط المرتدين امثالك ممن اعجزتهم النصوص تقحموا هذاه المهلكه. .