يثور الجدل بين مكونات الحياة السياسية العربية حول الأسباب الكامنة خلف بروز جماعات
التطرف السياسي الديني، في الوقت الذي يتبنى فيه كل فريق رأيا بما يدعم توجهاته ومصالحه ومكتسباته، إلا إنه لا يمكن الجزم بأي سبب عاملا منفردا من عوامل ميلاد التطرف الديني؛ إذ تعود هذه الظاهرة إلى شكل هندسي رباعي متساوي الأضلاع .
(1)انسداد الأفق السياسي
ترى أحزاب المعارضة للأنظمة العربية بان انسداد الأفق السياسي هو العامل الرئيس والوحيد المحرض لرحم الأمة على ميلاد ظاهرة التطرف في البيئة العربية والإسلامية .
إذ يرون أن أجيال تفتحت عيونها على بيئة تمتاز بالانغلاق السياسي وتكميم الأفواه وحجب نور الحرية، فلا صوت إلا صوت البنادق، ولا قوة إلا قوة
حكم العسكر والاستبداد، أجيال قضت وهي تنظر إلى الصندوق الانتخابي، وقد زَوَّرَ نتائجَه صندوقٌ لا يعدّ كونه أكثر من مساحيق لتجميل وجه الاستبداد في المنطقة، وذرِّ الرماد في العيون أمام المجتمع الدولي .
أجيال قضت وهي ترى الأمة التي تنتمي إليها بقعةً سوداءَ في وجه البشرية الديمقراطي، فلا حروب ولا دماء ولا سجون ولا تعذيب إلا ويكون للبيئة العربية والإسلامية منه أكبر النصيب .
انغلاق سياسي، وانعدام أفق مستقبلي، كلها عوامل تضغط في اتجاه انفجار ظاهرة التطرف التي تعيشها المنطقة، لتمتد إلى مناطق الأخرى.
(2) الانهيار الاقتصادي والتنموي
الأرقام تكاد تكون مرعبة فيما يتعلق بالبطالة في العالم العربي؛ إذ يقدّر مختصون أن البطالة تشكل ما نسبته 22 بالمئة من نسبة القوى العاملة العربية مجتمعة، وأن الشباب يشكل ما نسبته 55 بالمئة من هذه الفئة لعام 2014، في حين أن نسب البطالة في القارة الأوروبية بلغت11 بالمئة، نتيجة لعملية التباطؤ الاقتصادي الذي أعقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، إذ كان قبل ذلك دون هذه النسبة بكثير.
أرقام الجوع أو العيش تحت خط الفقر ليست أقل أهمية، إذ يصيب الجوع 40 بالمئة من سكان العالم العربي، وإن كانت هذه النسبة تختلف من دولة إلى أخرى، إلا أن الجوع يشكل 60 بالمئة في اليمن، و40 بالمئة في مصر، وأن المنطقة العربية تتفوق في الجوع والعيش تحت خط الفقر على كثير من الشعوب، رغم الثروات الطبيعية التي منيت بها المنطقة.
الأمية تتفشى في العالم العربي بنسبة تصل إلى 27 بالمئة من عدد سكان المنطقة العربية؛ إذ يقدر عدد الأميين للحرف الأبجدي في العالم العربي إلى 100 مليون، يتركز 40 مليون منهم في مصر، وتشكل الإناث 80 بالمئة من هذه النسبة في العالم العربي، وهي نسب تمثل ضعف نسب الأمية المنتشرة في العالم .
أرقام الفساد في العالم العربي لا تقل خطورة عما سبقها؛ إذ أشارت المنظمة العربية لمكافحة الفساد في عام 2010 أن المنطقة العربية سجلت إضاعة ألف مليار دولار في عمليات إهدار وفساد مالي خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وهو ما يشكل ما نسبته ثلث الناتج القومي العربي، مبالغ يراها البعض كفيلة بحل الإشكاليات الاقتصادية لمجموعة كبيرة من الدول العربية.
يرى بعض الباحثين أن كل تلك العوامل الاقتصادية المتهالكة تشكل البيئة الخصبة والحاضنة لنمو وترعرع ظاهرة التطرف والإرهاب الذي يمارس باسم الدين.
(3) الكفر بالمؤسسات الدولية
كانت القضية الفلسطينية، ولا زالت، ولسوف تبقى، تشكل عاملا مهما من عوامل توتر المنطقة واشتعالها، قضية كان لها أكبر الأثر في توسيع الفجوة ما بين الشعوب العربية من جهة، ومؤسسات المجتمع الدولي من جهة أخرى .
شعوب تنظر بسخط لقرارات المؤسسات الدولية التي تنحاز بشكل مطلق لدولة إسرائيل ضد مصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة؛ إذ لم تتخذ المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها عام 2002 أي قرار ضد القادة الإسرائيليين على ما ارتكبوه من الإبادات الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب بحق الشعب الفلسطيني في انتفاضة الفلسطينية الثانية، ومذابح غزة عام 2008، ومذابح غزة عام 2014 .
كما أن مجلس الأمن عجز خلال العقود الماضية عن إنصاف الشعب الفلسطيني؛ حيث استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الفيتو (42) مرة ضد القضية الفلسطينية ومصالح الشعب الفلسطيني .
كل ذلك عمق الفجوة ما بين الشعوب العربية ومؤسسات المجتمع الدولة؛ كون ذلك بيئة خصبة في الدفع باتجاه التطرف الذي يتغذى على الشعور بالمظلومية، وهضم الحقوق، ويهيئ العقول لقبول أبجديات الخطاب المتطرف، الذي يسوق تلك المواقف ليبرهن أن الجميع أعداء متحدون، وكلهم في صف واحد لمحاربة الأمة العربية والإسلامية .
(4) تشوه التراث الإسلامي السياسي
لا يمكن أن تكون كل تلك العوامل سابقة الذكر هي العوامل التي تصنع التطرف لولا وجود اختلالات حقيقية أصابت التراث الإسلامي السياسي، نتيجة لفترات الانحطاط التي مرت بها الأمة من احتلالات وحروب أثرت عليها؛ إذ لا زال في التراث الإسلامي كثير من الانحرافات التي تغذي وتنظر للفكر المتطرف وتدعمه .
النظر إلى بعض الفقه القديم، والتعامل معه بصبغة القداسة الدينية، وإغلاق باب الاجتهاد، ورفض الفقه الحديث، واجترار كتب القدماء، واستعادة إحياء الأوراق الفقهية الصفراء التي ولدت في عصر زمني مختلف، كل ذلك وفر البيئة الخصبة للفكر المتطرف .
الفهم المغلوط لنصوص الحاكمية والتنظير لمفهوم الخلافة على أنها شيء من صلب العقيدة ومقتضياتها، والضبابية الراهنة التي تلف مواقف الحركات الإسلامية السياسية من مفهوم الدولة المدنية ومفرداتها، خصوصا الديمقراطية، وتداول السلطة، وسلطة الشعب، وغرف التشريع، ساعد في تكون طبقة فكرية شعبية قابلة للانجرار خلف الفكر المتطرف متى توفرت الظروف الأخرى.
بنظرة سريعة إلى ما أنتجته المكتبة الإسلامية من فكر سياسي في عهد الستينات، ستجد أن كثيرا منها ينظر ويؤصل، ويُوجِد الحواضن التي يتولد فيها التطرف السياسي الديني .
التمسك بالفقه القديم، وضبابية الفقه الحديث، ومحاولة الإسقاطات السياسية القديمة، وانتشار فقه البلاء والمحن الذي لمع في القرن الماضي، مع جمود باب الاجتهاد السياسي في العصر الحديث، وتكوين بعض الجماعات التي تنادي باستنهاض النماذج السياسية القديمة، دون النظر إلى الواقع ومتغيراته، كلها عوامل أدت إلى تكون البيئة الفكرية الحاضنة للفكر المتطرف، وجعلت من التشوه الذي أصاب التراث الفكري الإسلامي عاملا مهما من عوامل التطرف السياسي الديني.
لسوف يبقى الجدل يحتدم بين القوى الإسلامية - التي ترى في الاستبداد، وانعدام الأفق السياسي، والانهيار الاقتصادي، وانحياز المجتمع الدولي ضد قضايا الأمة، عوامل للتطرف - وبين القوى العلمانية والنخب الحاكمة، التي ترى أن التشوه في التراث الإسلامي هو من أَنْجَبَ التطرف وصنعه، لكنه جدل يبقى يحتدم، دون أن يكون له أثر في وقف هذا التطرف وإنهاء حضوره .
من المؤكد أن العوامل التي ترى فيها القوى الإسلامية مصانع للتطرف، ومنتجا له، تعدّ العوامل المهمة والأساسية لنشوء التطرف السياسي الديني الذي نعيش، ولكن هذه الأسباب بالتأكيد لن تستطيع بمفردها ولادة حالة التطرف، إلا إذا تزاوجت مع التشوه الذي أصاب التراث الإسلامي، وتظللت بظله، ما يحتم على الجميع العمل المشترك في إزالة تلك الأسباب، لانطلاق الأمة في ترميم ذاتها، والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية من جديد .