في مشهد امتلأ بالإثارة بإحدى بلدات الضفة الغربية، يقوم مجموعة من
الأطفال بممارسة لعبتهم المفضلة وهي "جيش وعرب"، يحملون عصيا خشبية ولعب "مسدس الخرز"، ينتشرون في المكان، يتبادلون "إطلاق النار"، تتصاعد الهتافات من هنا وهناك، عاكسين في ذلك الجو الذي يعيشه أطفال فلسطين في ظل العدوان
الإسرائيلي المتواصل على قطاع
غزة والمواجهات التي تدور مع المقاومة الفلسطينية.
فقد أضحت الأخبار تشد انتباه الأطفال الفلسطينيين بدل الرسوم المتحركة، ويتابعون مجريات الأحداث أولا بأول وهذا ما انعكس على تصرفاتهم وألعابهم التي غلب عليها العنف.
الطفل مهدي بلاونة ذو سبع سنوات، لا يكف عن تقليد شخصية "أبو عبيدة" الناطق باسم كتائب عز الدين القسام، بطريقة ملفتة ويقلد المقاومين في لباسهم من خلال ارتداء الكوفية فلا تبان إلا عيناه، ويردد الأغاني الوطنية التي تبث على شاشات التلفزة.
ووصل التقليد بالأطفال إلى مراسلي الفضائيات الذين أضحوا نجوم الشاشات، كحال أطفال المواطن نادر صايل، والذي يحاول قدر الإمكان تجنيبهم مشاهدة مشاهد الدمار والقتل؛ يقول: "يقلد أطفالي مذيعي الفضائيات والمراسلين ويرغب أحدهم بأن يصبح صحفيا عندما يكبر".
ويرى الإعلامي أمين أبو وردة، أن وسائل الإعلام تأخذ دورا مهما في بلورة أفكار الأطفال واتجاهاتهم نحو القضايا التي يعيشونها، فالأطفال يقلدون أبطال الرسوم المتحركة والسينما في حركاتهم ولباسهم وقياسا على ذلك وبعد بروز دور المقاومة في الحرب على غزة أصبح الأطفال يقلدون حركات المقاومين من خلال ألعابهم في ظل حديث الشارع عن المقاومة وأعمالها مما رسخ في عقل الطفل أن ما يقومون به من تصرفات هو عمل وطني محبوب عند الكبار، أي من هم أكبر سنا منهم".
وأضاف في حديث لـ"عربي21": "كون الدور الإعلامي في مواكبة العدوان على قطاع غزة حاضر بقوة، وهناك تفوق إعلامي فلسطيني على إعلام الاحتلال فإن تقليد الإعلاميين برز بشكل كبير خاصة لمن يغطي المعركة عن قرب، فمتابعة الإعلام بشكل متواصل أثر على انطباعات الأطفال وتقليدهم لبعض الزملاء الصحفيين".
بدورها قالت الأخصائية الاجتماعية سمية الصفدي لـ"عربي21"، إن "أطفال فلسطين يكابدون الألم والأسى في كل مراحل حياتهم مما افقدهم طفولتهم البريئة وحول حياتهم إلى محطات فيها الموت والإصابة والمشافي والتشرد، وهذا افرز تحولات في نظرتهم للحياة وأشكال اللعب والتقليد".
وأضافت: "منذ انتفاضة العام 1978 وانتفاضة الـ2002 وما يجري حاليا من عدوان على قطاع غزة، وألعاب الأطفال يغلب عليها العسكر وحمل نعش الشهداء وتقليد المتحدثين والمسلحين وأبرز الصحافيين بسبب كثرة مشاهدتهم لتلك المناظر وأحداث الناس حولهم".
واللافت أن ألعاب العنف طالت الجنسين من الذكور والإناث وفق تعبير الصفدي، وقالت إن سبب ذلك يعود إلى مجريات الحرب التي لم تفرق بين الجانبين، حتى أن البنات نسين ألعاب العرائس ومجسمات الطبخ لتتحول ألعاب الكر والفر والحرب وتقليد مراسم التشييع للشهداء.
ونوهت إلى أن هناك أثارا سلبية لمتابعة الأطفال لصور الدمار والقتل؛ وقالت: "لبعض تلك الأشكال تأثيرات سلبية ينبغي العمل على التخفيف منها خوفا على نظرة الأطفال لمستقبلهم واستفحال مظاهر العنف، ناهيك عن نظرتهم التشاؤمية للمستقبل".
من جهته قال الدكتور جواد فطاير المحاضر في علم الاجتماع والنفس بجامعة النجاح الوطنية لـ"عربي 21": "هناك جوانب سلبية جدا ويبدو أننا لم نوعى عليها لحد الآن، نحن نعرض الأطفال لهذا العنف الخطير ولدرجة غير إنسانية مطلقا دون قصد، وتبدو لوهلة معينة أمام الطفل أن تلك المشاهد طبيعية ومألوفة ويتعود عليها الإنسان وهذا خطأ لأنها بالأصل غير طبيعية".
وأضاف: "يعتقدون أن الطفل بتلك المشاهد والتصرفات خاصة تقليد الكبار ممن يراهم على التلفاز كالمقاومين والمراسلين مع احترامنا لهم، أن يتكون الطفل بحس وطني ويصبح إنسانا متميزا، ولكن بالحقيقة هذا اعتقاد خاطئ، هناك أثر سلبي على سلوكه ونفسيته وتفكيره وشخصيته وعلاقاته مع الآخرين".
وتابع: "الصحافة قامت بدور جيد بنقل الفظائع بغزة، مشكورة على جهودها، ولكن تعرض الأطفال بحاجة إلى رعاية ومتابعة من الأهل حتى لا تكون مشاهد العنف وهذه الفظائع وهذه الأعمال جزء مألوفا من حياتهم وتفكيرهم وهنا تكمن نقطة الخطورة".
وعبر عن خوفه من أن "تتشوه نفسية الأطفال مع كل هذا العنف المعروض على التلفاز والذي يسمعونه ويرونه كل يوم، حتى باتت المشاهد مألوفة في حياتهم، وتحول لسلوك يومي بالشارع وبالتحدث والغناء والكلام واللباس حتى واللعب".
وأشار أن من تلك التأثيرات "الانعزال والوحدة والتفكير السلبي العميق والوحدة والانسحاب، وهناك من يصابون بالخوف الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى مرض تبول اللاإرادي وغيرها من أفكار خطيرة تأثر على نفسية الطفل لأنه غير قادر على مواجهتها وبثها وتفريغها مع الآخرين مع أهله على سبيل المثال فيتجرعها وحده وتترجم على أرض الواقع سواء بالمستقبل القريب أو البعيد".
الكاتب والمحلل السياسي خالد معالي، يرى أن ما يقوم به الأطفال من تقليد ومحاكاة لأعمال المقاومة هو "أمر عادي وطبيعي جدا، فهم نتاج لبيئتهم، والبيئة الحالية هي حرب وبالتالي هم يقلدون ما حولهم وما يرونه، فالأطفال سريعي التأثر بعكس الكبار، فعندما يرى الطفل عائلته تنتظر أخبار الحرب أولا بأول ولا يجد في التلفاز غير أخبار الحرب ويذهب للشارع ويجد حديث الناس عن الحرب ويزور أصدقاءه من الأطفال ولا حديث لهم سوى عن الحرب، والتالي هو يتأثر تلقائيا ويكون صدى للحالة المعاشة بشكل لا إرادي".
وأضاف في حديث لـ"عربي21": "الطفل الفلسطيني له خصوصية تختلف عن أطفال العالم كونه يعاني منذ الطفولة جراء ممارسات الاحتلال وعدوانه المتكرر على الشعب الفلسطيني، فالطفل عندما يرى أطفال فلسطينيون يقتلون بدم بارد من قبل طائرات الاحتلال في غزة فإنه سرعان ما يتولد عنده حالة من الرفض لذلك والانتقام رغم صغر سنه، وتتواصل في مخيلته صور الأطفال الشهداء ليكبر معها ويصر لاحقا على أن يثأر في ظل بيئة عربية تؤمن بالثأر".
ونوه أن ذلك "وضع غير طبيعي وسلبي المسؤول عنه الاحتلال ووحشيته في قتل الأطفال، فالأطفال هم ضحية وضع غير طبيعي أنتجه الاحتلال وليس أهلهم أو عائلتهم أو مجتمعهم".