هذه الكلمات المتلعثمة لخصت المشهد كله في
مصر بعد 60 سنة من حكم
العسكر. تم محو الدولة بالكامل، ولم يطفو فيها على السطح إلا كل جاهل أو فاسد أو خائن، هذه الكلمات عندما تخرج من شخص كان المفترض فيه أنه مدير المخابرات الحربية تعطي صورة مروعة عن مدى التعفن الذي أصاب مؤسسات الدولة، التي تدنت معايير الاختيار فيها فبنيت فقط على الولاء للحاكم من ناحية والرضا الأمريكي من ناحية أخرى، العسكر في مصر لم يؤسسوا جمهورية، بل كان إعلان الجمهورية وقتها قرار تأسيس شركة مساهمة، العسكر فيها مجلس الإدارة، اختفت كل معالم الدولة من مصر، فتم فصل السودان ثم غزة، وتم استئصال الدولة التي كانت تمثل مصالح الشعب وحلت محلها أفرع لشركة العسكر المساهمة، وانتقلت شركة العسكر المساهمة من ازدهار إلى ازدهار وانتقلت مصر من هزيمة إلى هزيمة، وبعدما كان الجيش ينتج نوعيات من الضباط المثقفين أمثال سعد الدين الشاذلي ويوسف السباعي وأحمد مظهر, أصبح ينتج المكرونة!
كان أحمد مظهر مثلاً ضابطاً في سلاح الفرسان ثم اصبح قائدا لمدرسة الفروسية ثم حارب في فلسطين، قبل أن يصبح أحد نجوم السينما، سعد الدين الشاذلي، كان ضابطاً بالحرس الملكي وقاتلَ ضد الألمان في العلمين واستمرت انجازاته العسكرية حتى خطط لحرب أكتوبر مرورا بانشاء سلاح المظلات وكان هو الآخر يجيد
الإنجليزية والفرنسية ويبدو كفارس نبيل وأذكر لقاءه مع الإعلامي أحمد منصور في برنامج شاهد على العصر، وكيف كان يشرح تفاصيل خلافه مع
السادات وتلك الجملة الفرنسية الشهيرة التي استعارها من لويس الرابع عشر ( انا الدولة والدولة أنا ) وكيف نطقها بطريقة شديدة الرقي حين أراد وصف خلافه مع السادات، كانت هذه هي نوعية الضباط التي ينتجها الجيش قبل كارثة 52، ضباط لائقون من ناحية العقل وسلامة البدن والثقافة الرفيعة، ضباط يظهرون كضباط حقيقيين !
بالطبع لم يخل الأمر من استثناءات أدت لكوارث نزلت بمصر ومازلنا نعاني منها حتى الآن، ولكن معايير الاختيار اختلفت كثيرا، فالشركة التجارية التي تنتج الصلصة والمكرونة والمنشغلة بانشاء البنزينات والفنادق والدور والنوادي، والتي تستولي على اراضي الدولة، ليست بحاجة إلى ضباط فرسان نبلاء من نوعية أحمد مظهر وسعد الدين الشاذلي، ولكنها بحاجة لموظفين يرضى عنهم أسيادهم في أمريكا ويحوزون ثقة مديريهم في تل أبيب، وهي مهنة اشبه بمهنة فؤاد المهندس في مسرحية ( أنا وهو وهي)، فالمطلوب من هؤلاء الموظفين أن يكونوا مجرد صبية وكلاء ينفذون إرادة صاحب التوكيل، وفي المقابل تتدفق عليهم الأموال وعمولات الأسلحة التي استغنت عنها أمريكا منذ سنوات !
ولا ضرر وقتها من أن يتقاضى أحد هؤلاء الصبية راتبا شهريا قدره 4 ملايين جنيه، وأن يرقي نفسه لرتبة المشير دون أن يطلق رصاصة واحدة في حياته، وبالطبع لا يشترط أن يكون هؤلاء الموظفون ممشوقي القامة, لائقي الهيئة، سليمي البدن، صحيحي العقل، فتلك المواصفات القزمية تكفي، بل ربما تكون مطلوبة من الناحية النفسية، أن يكون ( الموظف ) مستشعراً دائماً لعقد النقص في مظهره وخلفيته الاجتماعية والثقافية، ليسهل التحكم فيه وتوجيهه!
جيش الدولة الذي يحرص على ضم المؤهلين نفسيا وبدنيا وعقليا هو ما أنتج ضباطا لامعين يجيدون أكثر من لغة مثل الشاذلي يُوضعون على قدم المساواة مع روزفلت وديجول ومونتجومري، بينما أنتجت شركة المكرونة بالصلصة ومزارع الدواجن وتسمين العجول موظفين أقزاما يتكلمون إنجليزية ليسن يور أوباما وسانك يو .. ليت مي توك باي ارابيك!
وهي على كل حال علامة قرب انتهاء هذا الحكم العسكري الذي لم يعد بمقدوره إلا أن يفرز مثل هذه التشوهات!