تتضارب التصريحات في ما يتعلق بالوضع
الاقتصادي الذي تمر به
تونس حاليا؛ فالحكومة أكدت في أكثر من مناسبة أن الوضع غير مطمئن بالمرة. فيما اعتبر بعض الخبراء في المجال الاقتصادي أن الحكومة "تهول" في تقييمها للوضعية الاقتصادية، ذلك أن الأرقام المتوفرة لدى بعضهم تدل على أن الوضع الاقتصادي ليس بالخطورة التي تتحدث عنها الجهات الرسمية.
للوقوف على مستوى خطورة الوضع تحدثت صحيفة "عربي 21" إلى الخبير الاقتصادي الدولي
محجوب عزام، عبر حوار، في ما يأتي نصه:
كيف تقيمون الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد وماهي حقيقة التوصيفات التي تقول بأنه كارثي؟
باختصار، وبعيدا عن الأمور السياسيوية والتجاذبات، يمر الاقتصاد التونسي بوضعية حرجة جدا، ولكنه ليس كارثيا كما يروج لذلك البعض. وهذا طبيعي في الظرف الحالي الذي تمر به البلاد فكل المسارات الانتقالية متبوعة بانحدارات اقتصادية وهبوط وتأزم في مختلف المجالات.
أربعة مؤشرات تدل على أن الوضع الحالي غير مطمئن، وهي تضاعف عجز ميزانية الدولة ليتحول من قرابة 3% قبل الثورة إلى ما يقارب 6% بعدها، وتضاعف كذلك نسبة التضخم المالي وتحوله من 3% قبل رحيل بن علي إلى ما يقارب 8% بعده، كما أنها تضاعف عجز ميزان المدفوعات الجاري ليتحول هو الآخر من 3.5% قبل الثورة إلى قرابة 8% بعدها.. ومن أسباب تضاعف عجز ميزان المدفوعات نقص مداخيل البلاد من العملة الصعبة التي توفرها السياحة وينعشها التونسيون العاملون بالخارج. وفي حال تخطت هذه النسب الـ 10% يصبح الوضع كارثيا وتدخل الدولة في مرحلة الإفلاس والانهيار. وفي الحقيقة هذا الهبوط في الوضعية الاقتصادية بدأ منذ 2008، لكنه ارتفع بعد انهيار نظام بن علي.
أما المؤشر الأخير، فهو ارتفاع نسبة التداين إلى ما يقارب الـ 50% من ميزانية الدولة، وهذا في المعايير الدولية مقبول ويمكن تجاوزه بأقل الأضرار. وبناء على هذه الأرقام أنا ضد توصيف الوضع بـ"الكارثي".
انطلاقا من هذه المعطيات، هل يمكن أن ترفّع الدولة من أسعار بعض المنتوجات الأساسية من جديد للتخفيف من هذا العجز؟
هامش الحكومات في مجال الزيادات في بعض المواد انتهى ومن غير الممكن حسب المعطيات تنفيذ هذه الخطوة، خاصة بعد استنفاد كل أدوات التدخل الحكومي لإقرار المزيد من الزيادات. ثم إنه من غير الممكن المواصلة في نهج الحكومات السابقة التي تبعت خطوات متتالية في الزيادات في الأسعار، ما أنهك القدرة الشرائية للمواطن. وأي زيادة أخرى حاليا يمكن أن تثير موجة احتجاجات حادة وتعطي نتائج عكسية.
بعد ارتفاع نسبة المديونية إلى ما يقارب نصف ميزانية الدولة، هل ما زالت المؤسسات المالية العالمية المانحة واثقة في قدرة تونس على سداد ديونها؟
نعم. المؤسسات المالية المانحة وحتى الدول، على يقين من أن تونس قادرة على سداد ديونها، لكن الإشكال في اعتقادي ليس في الاقتراض في حدّ ذاته بل في مجالات صرف القروض. الحكومات السابقة استغلت أموال القروض في تنفيذ سياساتها التوسعية المتمثلة في الترفيع في الأجور والترفيع في حجم النفقات الاجتماعية، وتسديد بعض القروض السابقة، والترفيع في نسب الدعم عوض استغلالها لتنفيذ مشاريع استثمارية ذات مردودية مالية تنعش الموارد المالية للدولة.
هل يستدعي حجم الديون الجدولة أو تجميد السداد وقتيا إلى حين تعافي الاقتصاد التونسي وارتفاع نسبة الإنتاج؟
شخصيا لست مع فكرة الجدولة لأنها تعطي انطباعا سلبيا جدا قد يقف حاجزا أمام التمتع بقروض أخرى، وذلك يعطي انطباعا بأن السياسيات الاقتصادية المالية التونسية فاشلة، وبالتالي زعزعة الثقة التي اكتسبتها تونس. أما التجميد فهو أيضا ليس بالحل الأمثل؛ فلم نصل بعد إلى مرحلة نكون فيها عاجزين عن سداد ملياري دينار، المبلغ مطلوب دفعه في كل سنة شرط اتباع سياسة تقشف انتقائية. والحل المطروح هو العمل بكل الطرق على تحويل ديون بعض الدول إلى استثمارات في تونس كما هو الشأن مع الديون الألمانية البالغة 60 مليون يورو.
ماهي الحوافز التي يمكن أن تقدمها تونس لجلب المستثمرين، خاصة إذا ما قارناها بالحوافز التي يقدمها المغرب الأقصى (الوجهة المغاربية الاستثمارية الأولى تقريبا)؟
هناك مجلة استثمار، وهي بصدد الإصلاح والتعديل. هي ما سيحدد محفزات الاستثمار الخارجي. وهناك أيضا مؤتمر وطني اقتصادي سيعقد في أواخر شهر أيار/ مايو القادم، وسيحدد المشاركون فيه ما يمكن أن تقدمه تونس من مغريات استثمارية.
لكن قبل الحديث عن هذه الخطوة لدينا العديد من القوانين المعيقة للاستثمار يجب التخلي عنها، إلى جانب إزالة المشاكل العقارية التي تقف أمام بعث بعض المشاريع.
ثم إن الاستثمار الخارجي في تقديري يجب أن يكون انتقائيا أي أن يقتصر على المشاريع ذات القدرة التشغيلية الكبرى. وأن يشترط فيه احترام الخصوصيات البيئية لتونس، وأن يحترم أيضا الطابع العمراني التونسي الأصيل. والأهم من هذا، يجب أن لا يكون سببا في استنزاف بعض الثروات الطبيعية وخاصة المياه التي تشهد شحا في مواردها.
نقطة أخرى مهمة يجب الأخذ بها عند قبول أي استثمار، هي توفير الكفاءات القادرة على تسيير بعض المشاريع والتأقلم مع التطور في التقنيات الصناعية. ثم إنه يجب إلزام المستثمر بالامتثال لقوانين الشغل في تونس التي تحفظ حقوق العامل.
تحدثتم عن سياسة تقشف انتقائية.. ماهي ملامح هذه السياسة؟
هي خطة تهدف إلى التخفيض من حجم المصاريف الاجتماعية، لفائدة خزينة الدولة التي يجب أن تستغلها في بعث مشاريع تنموية خاصة في الجهات. عمليا تتمثل الخطة في اقتطاع مبالغ مالية متفاوتة من أجور الموظفين، وعلى رأسهم المسؤولون في الحكومة وكبار ومديرو المؤسسات المالية، إلى جانب دفع أصحاب رؤوس الأموال إلى توفير مبالغ معينة خلال نهاية كل شهر لفائدة الخزينة العامة، على أن تستثني هذه الخطة أصحاب الدخل الضعيف. وهذا في اعتقادي ممكن جدا.
يبدو أن هذه الخطة ستجد طريقها إلى التنفيذ، بعد أن قرر رئيس الحكومة التخلي عن ثلثي راتبه الشهري وقرر أيضا التقليص في مصاريف الحكومة لفائدة خزينة الدولة، كبادرة مشجعة للمضي في هذه الخطة.
هناك قرابة الـ100 ملف متعلق برجال أعمال متورطين في الفساد.. كيف يمكن التعامل مع هذه الملفات بما يعود بالنفع على الاقتصاد التونسي ودون الإخلال بمبدأ المحاسبة؟
أعتقد أن مبدأ المحاسبة قد تأخر كثيرا، شأنه شأن مسار العدالة الانتقالية. من جملة الحلول المطروحة هو أن يتم رفع تحجير السفرعنهم، وتخفيف العقوبات القانونية عنهم في مقابل تعهدهم بتنفيذ مشاريع تنموية في الجهات بقيمة الأموال التي نهبوها من خزينة الدولة، أوبعض المؤسسات أو بعض الأشخاص. ودفعهم إلى الاعتراف بارتكابهم جرائم اقتصادية وارجاع المسروقات إلى أصحابها الأصليين.
أعتقد أنه لا يمكن الذهاب إلى أكثر من هذه الخطوة لأن الوضعية الحالية تفرض طمأنة أصحاب الأموال، ليتمكنوا من مباشرة استثماراتهم والعمل على خلق مواطن شغل.. هذا من حيث المبدأ العام.
خيار آخر مطروح يمكن العمل به؛ وهو دراسة كل ملف على حدة، وتحديد نوع العقوبات التي يجب أن تسلط على صاحبه.