حينما كانت الكآبة تستغرق الباكين على الوهم، وكان الفرح الخدّاع يستغرق المنتشين بالنصر الكاذب؛ كانت
الثورة الحقيقية قد بدأت، وصار ممكنا من جديد أن ننخرط في مشروع تحرري مستمر متداخل يبدأ في نفوسنا ومنها إلى كل نفس إنسانية تعمر هذا الكوكب، لكنه أبدا لا ينتهي من نفوسنا.
وعلى هذا فإن الفترة التي وقعت ما بين ما عرف بثورة 25 يناير وانقلاب 30 يونيو ليس لها أي معنى ثوري، ولا أي قيمة تحررية، إلا بوصلها بما بعد انقلاب 30 يونيو، وبهذا فقط. ويا للمفارقة، تغدو 30 يونيو بتوأمها 3 يوليو خطوة ضرورية لتصحيح المسار، ولكن على خلاف ما يريد أصحابها، ليجمع البؤس طرفين نقيضين؛ الأول هم هؤلاء الذين أثقلتهم الكآبة واعتقدوا أن الأمة ارتدت عن مسار التغيير والثورة وأخذهم القلق والتوتر إلى مداه المعطِّل وتاهوا حزنا وكمدا في تفاصيل الحدث اليومي، والثاني هم خصومهم الذين اعتقدوا أيضا أنهم أجهزوا على مسار التغيير والثورة.
وإذا كان هذا الطرف الأخير المخدوع أداة غير واعية لإرادة خفية أرادت منحنا فرصة جديدة للتحرر والكف عن التولي، وأرادت أن تهزأ من المغترين بتدبيرهم وقدرتهم المدججة بالكيد والمال والسلاح وسِحر الصورة وامتلاك أدوات الاستخفاف، فإن الطرف الأول المعطَّل بالحزن والرثاء لا يزال قادرا على التقاط الفرصة المتاحة لأخذ المعنى والبدأ بالتحرر من أوهام
التحرر الزائف والثورة الباطلة، للانسياح في أفق التحرر الرحب مع الذين أدركوا المعنى بفطرة فذة، فلم ترهقهم التفاصيل ولا البحث في المآلات، ولكنهم انشغلوا في تحرير أنفسهم من كل عبودياتها الثقيلة، فإذا تخففوا منها طاروا في هذا الأفق المفتوح.
وقد كانت فرصتنا الأولى للتحرر حينما بدأنا في مواجهة الاستعمار الغازي حتى منتصف القرن الماضي، بيد أننا كنا نعيد دورة العبودية بأثواب جديدة، حينما انحصر سعي كل منا للتحرر داخل الحد الذي وضعه المستعمر وأسفل السقف الذي شاءه، حتى صار استقلالنا تماهيًا مع إرادته، وهو بهذا استقلال زائف بلا ريب، ثم صار السقف ينخفض أكثر، والحد يضيق كحبل المشنقة على رقابنا، إذ انتقلنا من عبودية للمستعمر بعد أن فرق سعينا، إلى عبودية لعبيده الذين استأمنهم علينا، أو لنخب وطنية عرّفت الوطن والثورة والأمة بذواتها فاستعبدت الجماهير ونزعت منها كرامتها الآدمية وهي تحمل عليها كما يُحمل على البهائم في سبيل مشروع تحديثي، ويا للسخرية لم يتم!
وفي لحظة الافتخار الوطني المرتسم داخل التصنيفات التي اشتقها لنا المستعمر كي تحدد فيها مشاعرنا، وتتشكل على صورتها هوياتنا، وينتهي بحدودها وعينا بذواتنا ودورنا في هذه الحياة، كان ثمة قلق غامض يتشكك في جدوى هذا السعي للاستقلال بأفق ضيق لم يفرضه المستعمر وحسب ولكنه سيزداد ضيقًا حتى ينتهي الإنسان بلا معنى، لأن سعيه في اليوم التالي على الاستقلال المغشوش لن يتجاوز أن يكدح كي يتقلب على هذه الأرض أعمى لا يبصر إلا من منافذ شهواته، أو كادحا في سبيل نخبة وطنية تسوقه كما تساق الأنعام ولكن بسياط من شعارات وطنية أو قومية لا تجعل منه عبدا لها وحسب، ولكن أيضا تعطل دوره كإنسان في هذه الحياة الدنيا بالضرورة.
مرت عقود حتى ألقت تلك الإرادة الخفية إشارتها المعجزة لإمكان استئناف مشروع الحرية من جديد ابتداء من تونس ومصر، ولكن ولأن القوالب الاستعمارية رازحة في وعينا صببنا ثورتنا داخلها، فصارت ثورة باطلة، وإذا بتلك الإرادة الخفية برحمة مشرقة تعطينا الإشارة من جديد لاستئناف جديد وهي تهزأ بالطغاة وتتخذهم أدوات غير واعية تفتح لنا طريق التحرر الفعلي، ولا تكتفي بذلك وهي تتخذ الشهداء دليلاً لا راد له على صحة المسار، وعلى حقيقة التحرر الذي يبدأ من أعماق النفس وبهدم الأوثان الثاوية فيها.
إن الإسلام وحده الذي يملك الإجابة على ذلك القلق الغامض الذي تشكك ذات مرة في جدوى حركات الاستقلال الوطني، وهي تعيد دورة العبودية وتقتل الإنسان في ذلك الضيق، لكن سوء الفهم للإسلام لم يتح للكثيرين منهم معرفة الإسلام بصفته مشروعًا تحرريًا متحركًا لا سكونًا متصنمًا في الماضي، وهو بهذا وحده الذي يمكنه أن يكون مشروعًا للإنسانية جمعاء، فهو حتى، أي الإسلام، لا يقر لحامل رسالته الساعي للانعتاق بإنجاز التحرر الذاتي بل يبقيه منشغلاً بهدم الطواغيت التي في داخله (الهوى، الذات، الخوف، الخشية، الرجاء، الدينار، الدرهم، القطيفة، الخميصة...)، ولا يقر له بالجدارة في حمل الرسالة للعالمين إلا بالقدر الذي ينشغل فيه أيضًا في تحرير نفسه مما يسعى لتحرير الناس منه، ثم هو لا يقر لهذه الكتلة التي تحمل مجتمعة الرسالة للعالمين بالأفضلية إلا بالقدر الذي تبقى فيه منشغلة بهدم الأصنام التي تنتصب تباعًا في صفها، وبالقدر الذي تبقى فيه متحركة إلى العالمين، لأن السكون والكف عن الدعوة مستنقع الأصنام الأكبر، وبهذا فإن الإسلام ليس جمودًا في الماضي وإنما حركة دائمة في النفس، وحركة دائمة في الكتلة المتحركة إلى العالمين، وهو بهذا عملية تحرر مستمرة بلا توقف، وعملية تحرر عصية على الانحشار في كل الأطر الضيقة، إذ حتى الكتلة التي تتحرك بالإسلام إلى العالمين لا تدعي تجسد الحق فيها ولا تدعي العلم النهائي بالوحي وإلا لتحولت إلى طاغوت جديد.
وهذا السعي بالإسلام للعالمين، ليس إكراها للعالمين على الإيمان به كدين، فهو سعي لا يتجاوز التمدد في هدم الطواغيت من النفس إلى الكتلة المتحركة بالإسلام إلى العالمين، في عملية متداخلة لا تنقطع من النفس ولا من الكتلة المتحركة به، ثم يبقى الناس واختيارهم بمحض حريتهم، وبهذا فإن الصراع بين الحق والباطل ليس ثنائية مانوية قاطعة وحدية ونهائية، وإن الدعوة بالإسلام ليست فاشية إكراهية باطشة، وإنما البطش مرحلة يُلجئ إليها بطش الطاغوت، فلا يتجاوز هدفها هدم الطاغوت، ويُترك الناس بعد ذلك أحرارا يبحثون عن المعنى موكلين إلى الفطرة والموعظة الحسنة، وإنما يُهدم الطاغوت بالفأس أو بالحجة وقد كان في إبراهيم أسوة حسنة.
إن التحرر بهذا المعنى يعني أن الساعي إلى الحرية، والمتحرك بها إلى العالمين، في عملية تغير وتطور مستمر، لأنه لا يتصارع مع الطواغيت المنتصبة خارجًا في مجالات الحياة وحسب، وإنما مع الطواغيت التي في نفسه، وهذه العملية تطور من داخلها نماذجها وأطرها ومفاهيمها بما يناسب حركتها، وهي في لحظات صعودها وظهورها وانتصارها يمكنها أن تستفيد في تلك الساعة من موقع قوتها من النماذج الإنسانية المعروضة، فإن النبي انتقل من "خلوا بيني وبين الناس" إلى إقامة السلطة السياسية وإعلان الجهاد، وترك صحابته بعد ذلك يطورون النموذج بما تحتاجه حركة حمل الرسالة إلى العالمين، وبهذا فإن العملية التحررية لا تنطلق من برامج جاهزة أو بدائل حاضرة، وإنما هي تنطلق عن قصد واعي إلى هدم الطواغيت لتحرير إرادة الناس ودعوتهم إلى الله كضمانة وحيدة لاستمرار القدرة على ممارسة العملية التحررية وحيازة المعنى.
وهذا المشروع التحرري لا يبدأ كمشروع تحرري صادق وجاد وحقيقي وإنساني، إلا بإدراك أن الانطلاق إلى هدم الطواغيت ضروري وهو معنى الوجود. بيد أن هذا الانطلاق يفتقد للضمانات، وإن كان مطلوبا أن يتحرى التدبير الأحسن والإتقان الأفضل في حدود المستطاع، فإنه ليس مكلفا بضمان النتائج، فالانتصار الوحيد المتحقق دائما هو الانخراط في العملية التحررية، أي بصراع الباطل داخل النفس، وحمل الرسالة للعالمين، وما بقي الثائر يسعى في هذا التغيير، تغيير نفسه ومحيطه والبشرية، فإنه على الطريق الصحيح، وإن قضى فقد أدى ما عليه، مهما كانت النتائج الظاهرة، فمن الأنبياء من يبعث وليس معه أحد.
وهذا المشروع التحرري لا يبدأ كمشروع تحرري صادق وجاد وحقيقي وإنساني، إلا بإدراك الكتلة التي تتحرك بالتغيير، أن استمرار الحق ليس منوطا باستمرارها، وأنه لا يجوز لها أن تساوم على الحق مقابل بقائها، أو تكف عن دورها كحامل لمشروع تحرري إنساني شامل مقابل تحولها إلى وثن جديد يصير وجوده غاية في ذاته، فإن النبي قاتل بالعصابة التي إن تهلك فلن يعبد الله في الأرض أبدا، بممكنات تكاد تكون معدمة، وقد شاء الله لهم ذات الشوكة هذه، والنبي يقاتل ويدعو وحسب، فكيف بأي كتلة دون هذه العصابة؟!
واليوم، وبعد الانقلاب في
مصر واستمرار الثورة السورية رغم كل العيوب والثلمات، نحن إزاء فرصة جديدة للتحرر، وقد انطلقت جماهير تحررت من خوفها، وألقت نفسها في النار على ملة إبراهيم بعد أن قارعت الطاغوت بالفأس والحجة، تُعذر إلى الله وتَكل إليه وحده نتائج سعيها، تمحو حدود المستعمر، وتهدم سقفه الواطئ، وتخرق ضيق الأيديولوجيات والهويات العصبوية والدعوات العنصرية والكيانات الوثنية، وتدفع عن طريقها العقبات الحائلة بينها وبين الناس، إنه الإنسان من جديد في سعيه الأول لإدراك المعنى، وإنها فرصتنا الثانية للتحرر، والطريق الصحيح لأحبة أمامنا.