كتاب عربي 21

كانت الأحزاب هي الحل.. فهل أصبحت اليوم هي المشكل؟

1300x600
1300x600
في النصف الأول من حكم الرئيس بورقيبة لم تكن هناك أحزاب معترف بها. فهو من طبعه لا يؤمن بجدوى التعددية الحزبية، ولهذا التقط أول مناسبة عندما حاول بعض الغاضبين الانقلاب عليه لكي يسارع بإلغاء الحزب الدستوري القديم وتجميد الحزب الشيوعي، لكي ينفرد حزبه بالحكم لفترة طويلة. ولم يقبل بالاعتراف بأحزاب أخرى إلا خلال مرحلة الثمانينات وقبل أن تتم الإطاحة به في فجر السابع من شهر نوفمبر 1987.
لم يكن الرئيس بن علي ديمقراطيا مطلقا، ليس فقط بحكم تكوينه العسكري، ولكن أيضا نظرا لضحالة ثقافته السياسية التي جعلته من أشد المعجبين بحكم الجنرال جاروزلسكي في بولونيا، وذلك عندما كان بن علي سفيرا لتونس في فرصوفيا. ويعود إعجابه بهذا الدكتاتور نظرا لقدرته على اعتقال جميع معارضيه في وقت وجيز قبل أن تعصف به الثورة. لكن المستبد التونسي لم يلغ الأحزاب في تونس، بل عمل على تكييفها، وجعلها تحت تصرفه، أي في خدمة نظام دكتاتوري يعتمد على ازدواجية الخطاب والممارسة. 
لهذا السبب، تحولت التعددية الحزبية إلى مطلب كل قوى المعارضة، وذلك طيلة الخمسين سنة السابقة من تاريخ سيطرة الحزب الواحد في تونس. وساد اعتقاد لدى جزء واسع من السياسيين وغيرهم أن التعددية هي الحل الجذري الذي سيضع حدا للاستبداد، ويشكل مدخلا للحداثة السياسية.
وجاءت الثورة التي وجهت ضربة قاضية لنظرية الحزب الواحد الحاكم أو المهيمن. ولم تمض عن تلك اللحظة سوى أسابيع قليلة حتى قفز عدد الأحزاب إلى مائة وعشرين في بلد لا يزيد سكانه عن عشرة ملايين نسمة. فما هي حصيلة هذه النقلة الرقمية بعد حوالي ثلاث سنوات من تاريخ الإطاحة ببن علي؟.
لا شك في أن سيطرة حزب واحد على مقاليد الدولة قد أصبح أمرا غير ممكن، حتى في ظل اختلال موازين القوى. فحركة النهضة التي تعتبر أقوى الأحزاب التونسية من حيث تنظيمها وعدد أنصارها، لن تستطيع الانفراد بالسلطة حتى لو أرادت ذلك. ويعود الأمر إلى توزع القوة بين مختلف الأطراف، حزبية كانت أو اجتماعية، مع تجرأ الجميع وارتفاع سقف الحريات، مما أحدث تحولا نوعيا في أسلوب إدارة الشأن العام. ولهذا السبب وجدت حركة النهضة نفسها مضطرة إلى التحالف مع حزبين تختلف معهما في أشياء كثيرة. وبناء عليه، فإن المستقبل سيبقى لفترة طويلة في صالح بناء التحالفات الحزبية من أجل تحقيق التوازن داخل منظومة الحكم في تونس. فجميع استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات المقبلة تفتح المجال حتما لائتلافات حاكمة، وتجعل من المستحيل تفوق حزب وحيد بأغلبية مريحة في البرلمان تسمح له بأن يحكم بمفرده.
لكن في مقابل ذلك، هناك نزوع شعبي ينمو تدريجيا نحو انتقاد أداء الأحزاب بدون استثناء، ويتجه أصحابه إلى الاعتقاد بأن الأحزاب لم تتمكن حتى الآن من التقدم بالبلاد، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع سابقا عندما كانت ممسوكة بشخص فرض نفسه بالقوة على الجميع؛ فأن يكمن الخلل ؟
لا شك في أن فوز حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لم يطعن فيه أحد، نظرا لكون العملية الانتخابية قد تمت في العموم في أجواء ديمقراطية وشفافة وإن صدم ذلك البعض، لكن تسرعها في المطالبة بأن يكون رئيس الحكومة نهضويا هو الذي أثار تحفظ عدد من الأحزاب، وأسهم بقوة في تقسيم الطبقة السياسية إلى كتلة حاكمة وأخرى في المعارضة. صحيح أن حركة النهضة قد بادرت بدعوة جميع الأطراف إلى تشكيل حكومة وطنية واسعة، وهو ما رفضته معظم القوى بالقول أنها لن تشارك في حكومة تقودها هذه الحركة. ومنذ تلك اللحظة والصراع على أشده بين من يحكم ومن يعارض.
التحالف الثلاثي يتهم المعارضة بأنها تعمل على عرقلته، ويحملها جزءا هاما من فشله، في حين تتهمه هذه الأخيرة بأنه فاشل بطبعه، وأن فشله يعود إلى نزعته القوية للاستئثار بالحكم، وخاصة حركة النهضة المتهمة بمحاولة السيطرة على مفاصل الدولة من خلال تعيين عناصرها في مختلف الأجهزة الحكومية والمؤسسات الرسمية. 
ومما زاد في تعقيد هذه العلاقة أن المعارضة تنقسم إلى قسمين، جزء منها يساري وقومي، والمعلوم أن العلاقة بين الإسلاميين واليساريين كانت دائما صدامية سواء في تونس أو في معظم البلاد العربية، وبما أن قادة الحركة الطلابية في مرحلة الثمانينات من الطرفين هم الذين يقودون العملية السياسية اليوم، سواء من موقع الحكم أو من موقع المعارضة، فقد تورطوا مجددا في صراعات ذات طابع أيديولوجي أو سياسي، وهو ما جعل البعض يتحدث عن استمرار معارك الجامعة بعد أن مكنتهم الثورة من التحكم في اللعبة السياسية.
أما الشق الثاني في صفوف المعارضة فيتولاه مزيج بين عناصر قيادية تنحدر من المدرسة الدستورية التي حكمت في تونس منذ استقلالها وأخرى يسارية التكوين أو ليبرالية. وهذا الشق له أيضا مع الإسلاميين رصيد من الصراع السابق، وهو ما جعل حركة النهضة ترفع في البداية شعارات تدور حول ضرورة منع من تسميهم ببقايا النظام السابق، وأعدت لهم مشروعا إقصائيا تحت عنوان " قانون حماية الثورة "، لكنها فشلت في تطبيقه، وتراجعت عنه، خاصة بعد ما شاهدت ما حصل في مصر عندما انقلبت الأوضاع تماما، وعاد الإخوان إلى وضع أسوء مما كانوا عليه قبل الثورة.
في ضوء هذه الحرب المتواصلة بين الأحزاب، بدأ يشيع بين التونسيين موقف سلبي منها، ويخشى أن يتجذر هذا الموقف لتصبح هذه الأحزاب هي المشكل بعد أن كانت هي الحل ؟ !     
التعليقات (0)