قضايا وآراء

الهيدروجين الأخضر أم رغيف الخبز؟.. نحو أولويات تنموية وطنية لا تمليها "موضات" الغرب

علاء الدين سعفان
"توفير رغيف الخبز من مواردنا الذاتية هو السيادة التنموية الحقيقية"- جيتي
"توفير رغيف الخبز من مواردنا الذاتية هو السيادة التنموية الحقيقية"- جيتي
شارك الخبر
تقف المملكة المغربية اليوم، ومن ورائها العديد من دول شمال أفريقيا، عند مفترق طرق تاريخي وحاسم. فبينما تتسابق عناوين الأخبار والندوات للحديث عن "المشاريع العملاقة (Mega-Projects) مثل محطات تحلية المياه لخدمة أغراض صناعية، ومشاريع الهيدروجين الأخضر الطموحة التي تهدف أساسا لتلبية الطلب الأوروبي على الطاقة، نجد لزاما علينا -كخبراء معنيين بمستقبل أمتنا وهذه المنطقة- أن نتوقف لنطرح السؤال "المسكوت عنه": ما هو الثمن الذي تدفعه الخزانة العامة والمواطن البسيط مقابل هذا "الترف التنموي"؟ وهل تصب هذه المشاريع فعليا في صالح الأولويات الوطنية الملحة؟

التناقض الهيكلي:

(اقتصاد فاقد البوصلة والهوية والانتماء يلاحق "الموضات الاستثمارية الغربية" ويتجاهل الأساسيات والأولويات)!

إن قراءة متأنية للأرقام المنشورة تكشف عما أسميه "التناقض الهيكلي" (Structural Contradiction) في الجسد الاقتصادي المغربي بل والعربي أيضا. في المغرب تحديدا يتحدثون عن استثمارات مليارية في تكنولوجيا الطاقة المعقدة، بينما لا يزال الاقتصاد يعاني من "ارتهان بنيوي" للتساقطات المطرية.. حيث لا تزيد مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي المغربي الإجمالي (GDP) عن 11 في المئة إلى 14 في المئة، وهو رقم هزيل لبلد يمتلك مقومات زراعية هائلة.

وفي المقابل، نجد أن الدين العام (Public Debt) يلامس سقف الـ71 في المئة من الناتج المحلي، وهو مستوى يضع البلاد تحت "ضغط حرج" (Critical Stress).

إن هذا الوضع يفرض على البلاد التوقف فورا عما يشبه "سلسلة بونزي" (Ponzi Scheme)، تلك الحلقة المفرغة التي تقترض فيها الدول ديونا جديدة فقط لسداد أقساط وفوائد ديون سابقة، مما يضخم كرة الثلج ويعيق أي تنمية حقيقية.

نزيف المستقبل

(لمصلحة من تبني المشاريع؟!)

إن الخطر الأكبر لا يكمن في أرقام الدين الصماء فحسب، بل في الكلفة الباهظة التي نحمل مسؤوليتها للأجيال القادمة. إنهم يورثون الأجيال القادمة ديونا طائلة، وفي الوقت ذاته يقدمون لهم نظاما تعليميا منفصلا عن الواقع، يضخ خريجين لا يحتاجهم سوق العمل!

تتجاوز نسبة البطالة بين الشباب المغربي حاجز الـ35 في المئة، بينما نتكبد خسارة فادحة تتمثل في "نزيف الأدمغة" (Brain Drain)؛ إذ يغادر البلاد سنويا نحو 3,700 من الكوادر عالية التأهيل (من أطباء ومهندسين)، بعد أن أنفقت الدولة الملايين على تعليمهم من جيوب دافعي الضرائب، ليذهبوا جاهزين لخدمة الاقتصادات الغربية! فهل يدفع المغاربة الضرائب ليستفيد منها الغرب؟!

هذه المعادلة المختلة تعني ببساطة أننا نمول رفاهية الغرب بمالنا وأبنائنا الذين هم أساس قوتنا الضاربة وتاج مواردنا.

الاكتفاء الغذائي لشعبنا يجب أن يكون له الأولوية قبل تأمين الطاقة لشعوب أوروبا:

انطلاقا من رؤية سيادية واعية وموالية لمصالح الشعب، كان الأجدر بنا بدلا من الهرولة خلف مشاريع تحلية المياه المكلفة لإنتاج الطاقة، أن نلتفت لأولويات بلادنا واحتياجات شعوبنا.

وهنا أستحضر تجربة العالم المصري الفذ البروفيسور أحمد مستجير -رحمه الله- ونظريته الثورية في "زراعة أنواع مطورة من القمح والشعير باستخدام مياه البحر المالحة مباشرة". وهي النظرية التي للأسف تجاهلها بلده مصر، فالتقطتها الهند وطبقتها لتتحول إلى واحدة من أكبر مصدري القمح في العالم.

المغرب، بساحله الممتد على نحو 3,500 كيلومتر، يمتلك مفاتيح "الاقتصاد الأزرق" (Blue Economy) والأمن الغذائي (Food Security). إن توفير رغيف الخبز من مواردنا الذاتية هو "السيادة التنموية" الحقيقية، وهو الأولى بالتمويل من مشاريع يمليها الغرب علينا تهدف لتحويلنا إلى مجرد "بطارية" لأوروبا.

لا للضمانات السيادية لـ"ترف الاستثمار":

فيما يخص تمويل هذه الاستثمارات التي تبحثها الورش (الأوراش) الكبرى، فإنني أؤكد بصفتي استشاريا في تمويل المشاريع، أن اللجوء إلى "القروض السيادية" (Sovereign Loans) أو تقديم الدولة لـ"ضمانات سيادية" لمشاريع الطاقة والهيدروجين هو خطأ استراتيجي فادح.

يجب أن تظل الخزانة العامة (الخزينة العامة) وطنية الإنفاق ومكرسة للإنفاق على الأولويات الوطنية الملحة فقط: مثل محاربة الفقر، والجهل، والمرض، وإصلاح التعليم وتوليد الوظائف الحقيقية. أما ما أسميه "الترف الاستثماري"، فيجب أن يُطرح للقطاع الاستثماري وبخاصة الأجنبي منه بصيغ التمويل الخارجي المختلفة، مثل: نظام البناء والتشغيل والتحويل (BOT): حيث يأتي المستثمر الأجنبي بماله وتقنياته (Capital & Technology)، فتنخفض المخاطر، بينما تفرض الدولة شروطا صارمة لتوظيف العمالة الوطنية واستخدام مكونات محلية لتشغيل الصناعات المغذية، فيما يقتصر توجيه الصكوك السيادية (Sovereign Sukuk) والتي تعد "أداة تمويل ممتازة"؛ على تمويل البنية التحتية التي تصب في المصالح المباشرة للمواطنين (مثل المدارس، المستشفيات، تحديث الزراعة)، لرفع الدخل القومي ودخل الفرد بشكل مباشر.

فخ "مبادلة الديون" وحتمية الحوكمة:

من الضروري أيضا التحذير من الدعوات المضللة لـ"تحويل الديون إلى أسهم" (Debt-to-Equity Swaps)، والتي هي في الحقيقة بيع أو تنازل عن أصول الدولة.

البديل الصحيح هو "إعادة جدولة الديون" لوقف نزيف الميزانية وتحويل الاقتصاد هيكليا لاقتصاد إنتاجي تنموي، وليس اقتصادا ريعيا فاشلا يعيش على الضرائب والقروض.

كما أن بوابة جذب الاستثمار الحقيقي ليست "الإعفاءات الضريبية" فقط، بل يجب تعزيز الحوكمة والامتثال (Governance & Compliance) في مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة أيضا.

إن تطبيق معايير المحاسبة الدولية (IFRS) ومعايير المراجعة الداخلية (IIA Standards) يساهم بنجاح في إغلاق أبواب الفساد، ويحفز قطاع الاستشارات الوطني، ويعطي رسالة ثقة للعالم وللمستثمرين الأجانب.

ضرورة التسويق اليوم لاستثمارات الغد:

أخيرا، لا جدوى من بناء موانئ ضخمة دون "تسويق مسبق" لخدماتها عبر اتفاقيات دولية وإحياء للتكتل المغاربي والأفريقي، لضمان تشغيلها فورا وتحقيق عائد استثماري سريع.

كما ينبغي على المملكة المغربية العمل بجدية وإخلاص وتجرد وبدافع المواطنة والأخوة والجيرة والمصالح المشتركة على تصفير الأزمات والمشكلات المزمنة مع مواطنيها في الداخل، وفي الصحراء لتحقيق وئام وسلام مجتمعي يحفز العمل الوطني المشترك. وكذا عليها السعي للتصالح الفوري مع جيرانها وبالأخص مع الجزائر (بوابة عبور منتجاتها بريا إلى المشرق العربي)، وعدم الانسياق خلف الفتن العرقية والجهوية ونزاعات الحدود الترابية التي رسمها الاحتلال الذي لا يزال يحرص على استمرارية الفرقة والنزاع لإضعاف دولنا وإفقار شعوبنا.

إن المستثمر الأجنبي يبحث عن الأمان، والأمان لا يتحقق فقط بقوة الاحتياطي النقدي أو استقرار العملة المحلية، ولا حتى بالنصوص الدستورية وسيادة القانون -على أهميتها القصوى- بل يتحقق بوجود "سلم مجتمعي وإقليمي".

الجيل قاصم الظهور.. لا يراه الساسة ولا يعيرونه اهتمامهم:

إن من أهم ما يضمن هذا السلم أيضا تفهم الحكومات السبعينية المنفصلة عن واقعنا لمتطلبات "جيل زد" (Gen Z) وتوفير حياة كريمة لهم والتبشير بمستقبل حقيقي واعد لبلادهم.

إن شباب أمتنا هم الضامن الفعلي لاستقرارها، وهم القوة القادرة على تحويل التكنولوجيا المستوردة إلى نهضة وطنية، شريطة أن لا نبني لهم أوطانا طاردة تدفعهم دفعا لركوب قوارب الموت نحو حلم كابوسي أوروبي متخيل!
التعليقات (0)