قضايا وآراء

التدين وحده لا يمنع الاستبداد!

عصام تليمة
إن أعظم نموذج عادل في تاريخنا الإسلامي في الحكم البشري، هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. الأناضول
إن أعظم نموذج عادل في تاريخنا الإسلامي في الحكم البشري، هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. الأناضول
عنوان المقال لا يستهدف الإثارة، ولا الصدمة، أو نفي أثر الدين في الحياة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، بل هو ينطلق من عمق الدين، واستظهار نصوصه قرآنا وسنة، والغوص في تجارب المؤمنين به منذ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى يوم الناس هذا.

فهو ينطلق من حقيقة مهمة: أن اعتماد الناس على تدين الفرد المسؤول، سواء كان مسؤولا عن سلطة، بأن تولى زمام الحكم بين الناس، أو كان مسؤولا في جماعة دينية، فالاعتماد على تدينه والثقة فيه فقط، هو الخطر بعينه، وأحد مكامن الفتنة والبلاء الذي يعيشه المؤمنون بذلك سنين طويلة، وللأسف لا ينتفع الكثيرون بهذه التجارب، بل يمر الجيل تلو الجيل بنفس التجارب دون عظة أو اعتبار.

إذ لو كان من يتولى السلطة ـ صغرت أم كبرت ـ لديه إيمان حقيقي، ودين صحيح، لسعى إلى وضع مؤسسات تحاسبه وتراقبه، وتأخذ على يده إن أخطأ، لكن ثقة الجماهير ونخبتها في تدين من يحكمونها، أو من يتولون أمرها، ينتقل بالشخص المسؤول من الحاكم المتدين إلى الحاكم المستبد المتدين كذلك، أو من تخلى عن تدينه، لأن السلطة وكرسيها أبقى لديه من ذلك.

الحديث يمتد، سواء بالحديث عن السيسي، أو عن عمر البشير، ووصولا بأحمد الشرع، لن يختلف من حول هؤلاء في حديثهم عن تدينهم، بغض النظر عن شكل هذا التدين، صوفيا، أو إخوانيا، أو جهاديا، أو أي شكل كان، فهل كان أو سيكون تدين أي حاكم أو مسؤول مانعا عن الاستبداد أو الانفراد بالحكم، ثم ممارسة ألوان الاستبداد، ما لم يكن لديه مجتمع قوي، ومؤسسات قوية، تراقب وتحاسب، وترشد؟!
ومع طول المكث في المنصب، يصبح متلبسا به، فالوطن سيضيع بتركه، والدعوة ستنتهي بمغادرته، ولأجل ذلك يمارس الاستبداد والديكتاتورية، وهو مستمر على تدينه، فاصلا بين التدين وما يفعل، أو مبررا ما يفعل باسم التدين، ولن يعدم أن يجد من يبرر له ذلك دينيا، ويسوق له البراهين عليها، وذلك في غياب المؤسسات التي ترده عن استبداده.

ولذا وضع الإسلام بابا عريضا في أحكامه ومناهجه، عن الدين النصيحة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن سيد الشهداء الحمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه فقتله؟! وتشريعات الإسلام فيما يتعلق بالمجتمع، لا تعتمد على تدين الشخص نفسه، بل على المجموع من الناس، فهناك عبادات تؤدى فردية، وهي: النوافل، بينما الفرائض فأعلاها أجرا ما كان جماعة، وهناك إمام يؤم الناس في الصلاة، فإذا أخطأ كان على من خلفه من الصفوف أن يصوب له الخطأ، وحين يسهو الإمام، ويسجد للسهو، يسجده معه من صلى، وإن لم يكن شريكا معه في سهوه، وهكذا جل التشريعات في الإسلام تنطلق من هذا المبدأ، الجماعية والمسؤولية التضامنية.

ولو رحنا ننطلق من الإمام الصغرى (الصلاة)، إلى الإمامة بدرجاتها المختلفة، سواء الكبرى أو الوسطى، فكل مسؤولية في الإسلام رغم اشتراط التقوى والورع فيمن يتولاها، فلم تترك المهمة لورعه وتقواه وتدينه الشخصي، بل أوكلت للأمة الرقابة والمحاسبة الدائمة له، ولو أدى ذلك لعزله.

ولو راجعنا معظم تجاربنا الإسلامية والعربية في الحكم والمسؤولية، سنجد أن معظمها أوتي من هذا الجانب، سواء كان بالتمظهر بالتدين، أو كان تدينا حقيقيا، لكنه انفرد بالحكم، وتركت له أزمة الأمور، فتحول لاستبداد، وذلك لغياب المؤسسات التي تراقب وتحاسب، بشكل مستمر ودائم.

إن أعظم نموذج عادل في تاريخنا الإسلامي في الحكم البشري، هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد مر ذات يوم في المدينة، فسمع أصوات كؤوس خمر، فتسور باب البيت على شاربي الخمر، وضبطهم متلبسين بجرمهم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين أخطأنا مرة، ولكنك أخطأت مرتين، أخطأنا بشرب الخمر، ولكنك تجسست علينا، ثم تسورت علينا باب البيت، فأدرك عمر صحة موقفهم، فخرج دون عقاب لهم.

وهي حادثة مشهورة في التاريخ الإسلامي، لكن المفكر الكبير عباس العقاد، عقب تعقيبا مهما، حيث قال: وإذا كان عمر يستحق الإشادة في هذا الموقف، إذ صعد بالأمر ورجع فورا عن توقيع العقاب، حينما ووجه بنصوص القرآن التي لا تقف في صفه، فإن ما يستحق التقدير هو النظام الإسلامي الذي ألزم الخليفة باحترام حرية الناس في مساكنهم. فالعقاد يشيد لعظمة الإسلام التي جعلت شخصيا مذنبا مقترفا لجرم، لكن ذلك لم يمنعه رغم مهابة عمر، وصرامة النظام، أن يواجه، ويتراجع عمر عن العقوبة.

وكان عمر رضي الله عنه يدرك ذلك، ولم يترك الأمر لتدينه، رغم تلقيب الرسول صلى الله عليه وسلم له بالفاروق، ولكنه حين تولى، وحين تولى من قبله أبو بكر، كان نداؤهم الأول بعد توليتهم: العون على المسؤولية حين الاستقامة، وتقويمه حين اعوجاجه، فكانت العظمة الدينية لعمر وحدها لا تكفي، بل كانت العظمة عظمة النظام الذي وضعه الإسلام، وعظمة المجتمع الذي كان يقف لعمر يحاسبه ويساءله، رغم الثفة في دينه، لكن الثقة الدينية وحدها لا تكفي لمنع استبداد الشخص لو تسرب إليه، بل لا بد من محاسبته.

وهو ما رأيناه من عمر نفسه مع صحابي جليل آخر، هو خالد بن الوليد، فمحاسبة عمر ومساءلته الدائمة لخالد كانت عاملا في كبح جموح خالد، وتقليل أخطائه العسكرية التي كانت تصدر عن حسن نية منه، ولم يكن دافعها التجاوز، بل مقتضيات الحرب وضروراتها، ومع ذلك لم يترك لتدينه الفردي يتحكم في الأمر وحده، وقد كان ذلك يمارس من جنده ومن مجتمع المدينة، رغم إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم لقب: سيف الله المسلول لخالد، فلم يكن ذلك ضمانة أبدية، أو حاجزا عن المحاسبة، أو الرقابة، لأن التدين الفردي هنا لا يكفي وحده، بل لا بد من مؤسسة الحكم والمسؤولية.

يروي لنا التاريخ فيما بعد الراشدين، أن بريرة رضي الله عنها، وقد كانت مولاة للسيدة عائشة رضي الله عنها، رأت على عبد الملك بن مروان مخايل الذكاء والطموح، وقد كان متدينا، وكان عبد الملك يتردد عليها، فقال: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن ألي هذا الأمر، وكانت تقول لي: ‌يا ‌عبد ‌الملك، إني أرى فيك خصالا لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل يدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليه، بملء محجمة من دم يهريقه من مسلم بغير حق"، لكن عبد الملك تولى الأمر، فماذا فعل في ظل غياب مؤسسات، وفي ظل حكم ملك عضوض؟!

ضربت هذه النماذج وركزت على نموذج من الراشدين، وبأعلى مستويات العدل، لننزل بعد ذلك إلى العصور التالية، انتهاء بعصورنا، فلم يمنع التدين مسؤولين وحكاما من ممارسة البطش والظلم، والاستبداد، رغم تدينهم، وتصدرهم بين الناس بهذا التدين، دعك ممن اتخذوا التدين مطية للوصول لثقة الشعب، لكن الواقع المعيش أظهر لنا شخصيات معاصرة كانت ولا زالت تمارس البطش والاستبداد مع تدينها.

لو كان من يتولى السلطة ـ صغرت أم كبرت ـ لديه إيمان حقيقي، ودين صحيح، لسعى إلى وضع مؤسسات تحاسبه وتراقبه، وتأخذ على يده إن أخطأ، لكن ثقة الجماهير ونخبتها في تدين من يحكمونها، أو من يتولون أمرها، ينتقل بالشخص المسؤول من الحاكم المتدين إلى الحاكم المستبد المتدين كذلك، أو من تخلى عن تدينه، لأن السلطة وكرسيها أبقى لديه من ذلك.
فقد كان الرئيس أنور السادات متدينا، وكان السيد حسين الشافعي كذلك، ومع ذلك ترأسا محكمة يعلمان علم اليقين أن المتهمين الماثلون أمامهم مظلومين، وقد حكم الشافعي على الأستاذ عبد القادر عودة بالإعدام، وهو يعلم براءته، وكان الشافعي متدينا صوفيا، وكان يكتب مقالات يفسر سورة النساء، ومنها قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها)، ومع ذلك أصدر حكمه، ولما حاوره الأستاذ أحمد منصور في برنامج (شاهد على العصر) راح يبرر ما فعل، بل يدافع عنه بدون أدنى تفكير أو مراجعة، وقد أكل المشيب كل شعر رأسه، وكانت له لحية، وزبيبة الصلاة في جبهته!

والحديث يمتد، سواء بالحديث عن السيسي، أو عن عمر البشير، ووصولا بأحمد الشرع، لن يختلف من حول هؤلاء في حديثهم عن تدينهم، بغض النظر عن شكل هذا التدين، صوفيا، أو إخوانيا، أو جهاديا، أو أي شكل كان، فهل كان أو سيكون تدين أي حاكم أو مسؤول مانعا عن الاستبداد أو الانفراد بالحكم، ثم ممارسة ألوان الاستبداد، ما لم يكن لديه مجتمع قوي، ومؤسسات قوية، تراقب وتحاسب، وترشد؟!

أقول هذا الكلام لأن هناك من يريد تصدير صورة الحاكم أو المسؤول عن طريق تدينه، والثقة في ذلك، بل والإفراط فيها، ويغض النظر عن ضرورة وجود المؤسسات التي تعبر عن الأمة، وتكون وكيلة عنها، وهو كلام لا يصدر إلا عن جاهل بالدين، أو جاهل بالتاريخ والواقع، أو جاهل بذلك كله، وتدفع الأمة والشعوب ثمن هذا الجهل عقودا تلو العقود، بينما هناك شعوب أخرى لا تنتسب للإسلام، استطاعت بناء مؤسسات حكم، ومؤسسات مراقبة، ومؤسسات محاسبة، بجانب الحساب الشعبي والوعي بما يجب أن تكون عليه من يقظة وضمير.

ومن يتأمل الآية التي أطلق عليها الإمام ابن تيمية: آية الأمراء، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) النساء: 59، فقد جاءت ولي الأمر هنا بالجمع، (أولي الأمر)، وهي دلالة على أنه ليس فردا وحده يتولى الحكم، بل هو لا يمثل سوى رأس الهرم كشخص، لكن في وجود مؤسسات، فهو مجرد ترس في الجهاز، وحوله ومعه تروس بدونها لا يستقيم الأمر.

[email protected]
التعليقات (0)

خبر عاجل