مقالات مختارة

ملاحظات وخواطر من سوريا في زمن جديد

ياسين الحاج صالح
الأناضول
الأناضول
أول ما قد يلفت سورياً عائداً إلى بلده بعد سنوات مظاهر تردٍّ متقدم في البيئات المدينية، الأبنية والشوارع والمساحات الخضراء والهواء الملوث، بخاصة في العاصمة دمشق، فضلاً عن تراجع الخدمات من كهرباء (بالكاد ثلاث ساعات في اليوم في دمشق) وقلة النظافة وازدحام مروري شديد، وانتشار «البسطات» في كل مكان، تبيع بضائع قادمة من الشمال، من إدلب ومن تركيا.

وفي الساحات والشوارع الرئيسية في دمشق وحمص واللاذقية تصادف كل 100 متر تقريباً أوعية ماء بلاستيكية مملوءة بالبنزين، القادم بدوره من الشمال. ومع انفتاح حدود البلد لسوريين وأجانب بعد سقوط النظام، تنتشر محلات الصرافة، وفي الشارع بين السيارات تعلو أصوات صرافين ينادون على بضاعتهم. هناك حالة اهتراء في البلد تعكس تقدم العملية الترثيثية التي عانت منها سوريا طوال سنوت الحكم الأسدي، وفاقمتها شروط الثورة والحرب والتعفن الطويل للصراع السوري، وما يتصل بذلك من غياب أفعال الصيانة والتجديد.

يتقابل هذا الترثُّث مع التحفز العام عند قطاعات من السوريين أوسع من أي وقت سبق، تسود فيها روح إيجابية، وإن كان يتناوبها طيف المشاعر كله، من الابتهاج والفرح إلى الخوف والتوجس كل يوم. اتجاه تطور الأمور في البلد يتعلق بقدر ما بمحصلة القوى بين الترثث القائم والمترسخ واتساع دوائر التحفز أو التوثب النشط.

المشكلة الأساسية هي الفقر الذي تتراوح أرقامه بين 70 و90 في المئة من السكان، يظهر مباشرة عبر انتشار كبير للمتسولين في الشوارع، أطفال من الجنسين ورجال ونساء، وكذلك في اقتصاد البسطات.

هذا يقتضي معونات إسعافية عاجلة، وأهم من ذلك تحفيز النشاط المنتج الصناعي والزراعي والخدمي، وتقلص مراتب البطالة الصريحة والمقنعة. أما المشكلة الملحة أكثر من غيرها فهي الأمن، في حمص خاصة التي شهدت وتشهد توترات طائفية وعمليات تفتيش و«تمشيط» بحثاً عن السلاح ومطلوبين، لكن مورست أثناءها أفعال إذلال مشينة ضد مواطنين علويين.

ينسحب سكان المدينة من شوارعها غير المضاءة في السابعة مساء، خلافاً لما هو الحال في اللاذقية ودمشق.

بعد خمسة أسابيع من فرار بشار الأسد وسقوط نظامه، الأوضاع سائلة في البلد ولا شكل لها: المؤسسات القديمة ألغيت أو جمدت أو فقدت الفاعلية، والمؤسسات الجديدة المتصلة بإدارة أحمد الشرع ضعيفة التشكل والأثر إلى اليوم، ولا تبدو موحدة التوجه. ولأنه سائل، فهذا زمن تأسيسي، ويبدو مناسباً جداً للأنشطة العامة المؤسّسة، من بناء الأحزاب والمنظمات والجمعيات، ومن توسيع مساحات النقاش العام، كجهود لتشكيل الأوضاع العامة بما يتوافق مع تطلعات الفاعلين العامين الجدد.

الوضع وضع ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث تثور الانفعالات وتختلط المشاعر وتتداخل الأفكار في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. لا يكاد يتكلم أي شخص دون أن يقول الشيء ونقيضه.

ويتصل بوضع السيولة كثرة الإشاعات وفي كل اتجاه، سواء عبر اختلاق وقائع غير موجودة يسهل من أمر انتشارها وسائل التواصل الاجتماعي، أو بتحويل نتفة من حدث إلى قصة وبناء تأويل حولها حسب هوى المتكلم، أو من تحويل تأويلات مجادل بها إلى وقائع قطعية.

ربما يحدث مثل كل ذلك في الثورات والتحولات العظيمة، ولكنه يدعو إلى التريث والتبصر. ظواهر الأمور قلما تطابق حقائقها، وقد لا نرى ما يجدر بنا رؤيته بسبب اضطراب مياه الواقع الجديد وما يتصل به من هيجان الانفعالات.

شهر العسل الثوري، بعبارة آصف بيات، انتهى كأمد زمني، لكنه لما ينته في النفوس، يتجدد مع كل قادمين جدد إلى البلد بعد سنوات طويلة من المهجر، نحو نصف قرن في حالة الصديق فاروق مردم بيك. سقوط النظام بعد 54 عاماً من الحكم، لا يزال ثورة عظيمة، كانت مستحيلة التصور قبل شهر ونصف.

وهذا مثلما كانت الثورة السورية مستحيلاً وقع، ومثلما كان تناهش البلد والدمار البشري والمادي الواسع النطاق مستحيل التصور. في سوريا اليوم ما قد يكون أعلى مستوى حرية بلا قواعد في عالم اليوم، وفي حين أنه لا بد من تطوير قواعد ناظمة لأوجه العمل العام في الشهور والسنوات القليلة المقبلة، فإن الخشية من قواعد بلا حرية منتشرة اليوم ومنذ البداية قبل أسابيع.

المزاج العام متقلب، بل سائل هو الآخر، لكنه متفاعل مع ما يجري. لكن هناك شكلين من رفض التفاعل، أولهما تشكك عدائي سلبي بكل ما يحدث، يرفض أخذ العلم بوضع جديد كثير الممكنات، ويمكن التأثير فيه في الجهة التي يفضلها المتفاعلون؛ وثانيهما هو الموالاة الاتباعية العمياء التي يلغي أصحابها أنفسهم بالالتحاق بما تفعله السلطة دون نقاش. هذان موقفان قديمان على حد سواء، ينكران «ذاتية» التحول الكبير، ويرفضان التغير لملاقاته. يشتركان في إنكار البداية الكبيرة لصالح استمرارية ما سبق والثبات على القديم.

يلحظ كل من يقابلهم المرء من متكلمين أن أحمد الشرع لم يخاطب السوريين مباشرة. الواقعة مؤسفة، وما قد يكون مؤسفاً أكثر منها هو السبب المحتمل وراءها: الخشية من إعطاء وعود محددة أو عدم القدرة على ذلك. هذا خطر. سوريا تلج مستقبلاً لا يمكن التنبؤ بأحداثه، وما يساعد على ولوجه بأمان هو أن المتحكمين بمفاتيحه أكثر من غيرهم يلتزمون أمام العموم ويلزمون أنفسهم بوعود عامة. ليس الوقت مبكراً على فعل ذلك.

وربما يكمن وراء عدم القدرة على الوعد كون الشرع يحكم كيانين: جماعته في «هيئة تحرير الشام» وما ينضوي تحت جناحها من تشكيلات مسلحة، ثم سوريا، البلد المتعدد على مستويات متعددة. والعلاقة بين ما يتصل بالكيان الأول من وعود، مع ما هو معلوم من أن لمعظمه تاريخا سلفيا جهاديا، أي متطرفا وطائفيا ومحافظا اجتماعياً جداً، وبين وعود الكيان الثاني، السوري، هي علاقة عدم توافق، بل تنافر. وما حدث غير مرة من تدخلات في حياة سكان محليين هنا وهناك، ومنها مبادرة الهداية في جبلة على الساحل على يد أشخاص غير سوريين، هو مثال على تنافر الوعود. «سوريا بدها حرية» وليس فلقة لمن لا يحفظ القرآن.

لعل من الدوافع التكوينية العميقة في سلوك الفريق المسيطر الجديد ما يمكن تسميته رهاب السحق الذي يتملك الإسلاميين، وهو رهاب لم يأت من عدم، فقد سحقوا فعلاً على يد نظم محلية ونظام السيطرة الدولي مراراً وفي بلدان متعددة.

من يستطيع أن يعطي الإسلاميين الحاكمين اليوم تطمينات بأنهم لن يسحقوا؟ لكن في هذا الشأن، كما في شأن مخاوف «الأقليات» التطمينات لا تجدي. ما يمكن أن يجدي هو ميثاق وطني سوري يؤسس لنظام سياسي جديد، قائم على التعددية السياسية والانتخابات الحرة وتداول السلطة.

ما يحمي الإسلاميين هو نفسه ما يحمي غيرهم، مثلما أن ما يحمي الأقليات هو ما يحمي غيرها: المواطنة المتساوية. الميثاق، أو بكلمة أخرى الدستور، يمكن أن يعتمد بعد انتخابات حرة تجري خلال أربع سنوات، مثلما قال الشرع. ليست هذه فترة طويلة من أجل أسس أمتن لسوريا جديدة، لكن بشرط واحد: كفالة الحريات العامة خلال هذه السنوات من أجل توسيع دوائر النقاش العام واستقرار المشاعر والانفعالات ووضوح الأفكار، من أجل الحفاظ على قوة الدفاع الإيجابية الراهنة، ثمن من أجل أن يشكل الناس منظماتهم وأحزابهم ونقاباتهم واتحاداتهم في جو من الأمان والثقة.

وهو ما يقتضي من الإسلاميين أن يفكروا بأنهم حزب (أو أحزاب) مثل غيرهم، وليس «الحزب» مثلما كان حزب البعث الذي حزّب الدولة، وسهل خصخصتها واختزالها إلى «سوريا الأسد». إذا تمكن غرور السلطة الذي أودى بالأسديين وسوريا من إسلاميي اليوم فلن يكن المآل مختلفاً. ما يحميهم هو قواعد تعمهم مع غيرهم، وليس امتيازات سياسية وحقوقية ومؤسسية تخصهم دون غيرهم.

ليس ما يطمئن الإسلاميين «سياسة أعيان» جديدة يبدو أن تفكيرهم ينتظم حولها، يجري فيه تمثيل الجماعات الأهلية في النظام السياسي، لكن بثمن تثبيت الشكل الأهلي، دون المدني ودون الديمقراطي، للمجتمع السوري. سياسة الأعيان الجديدة لا تستطيع أن تعترض على سياسة «حماية الأقليات» التي تطرحها القوى الغربية، واليوم إسرائيل. لسياسة الأعيان وجه اجتماعي محافظ في كل حال، واقترانها باقتصاد السوق الذي تعرض الإرادة الجديدة حماسة له تقارب ما يسمى «أصولية السوق» سيدفع من كل بد إلى مشكلات اجتماعية متفجرة خلال سنوات، وليس عقودا.

ما يتجاوز سياسة حماية الأقليات هو ذاته ما يتجاوز سياسة الأعيان، وهو نظام سياسي يقوم على المواطنة، أي المساواة الحقوقية والسياسية بين السوريين الأفراد، والحريات العامة وحكم القانون والتعددية السياسية والانتخابات الحرة وتداول السلطة.

بعد موت سياسي مديد، تحتاج سوريا إلى حياة سياسية تتنشط. حكم المواطنين أصعب بطبيعة الحال من حكم الأتباع، لكن الحكم السهل على الطريقة الأسدية قاد إلى حربين أهليتين، بعشرات ألوف الضحايا في الأولى ومئات الألوف في الثانية، وإلى قطع الرأس السياسي للمجتمع السوري. يجب ألا يتكرر ذلك، وحول هذا الواجب يتعين أن تقوم الحياة السياسية والأخلاقية في سوريا الجديدة.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل