مفتاح للفهم:
"وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ".
"فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي
عِلْما، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْما" (طه: 114-115). هاتان الآيتان مفتاح في القرآن لو فهمناهما لأجبنا
عن أسئلة كثيرة، ولعلمنا كيف نتعامل مع الكون ونتكامل في الحياة، لأدركنا أن
التجديد والحركة تكليف، وليس كما نحن تقليديون نقدس الماضي، معطلين للقرآن بتجميده
بشروحات وفهم للشريعة من عصور أخرى، رغم أنها أوقفت الشورى بالتغلب مثلا.
* للقرآن تفاسير موضوعية عبر العصور، فَمَتْنُهُ من العلي
القدير لحالات ودرجات وظروف وأحوال متعددة ومختلفة، وإن الفتح من الله على عباده
في تأويل كلماته وتفسيرها في كل عصر من العصور، ولا يصح تقديس اجتهاد عالم أو
صحابي لعصره، إنما يجتهد لكل ظرف عصر. وكذلك هم فعلوا في زمانهم، ومن أمثله ذلك، أوقف عمر بن الخطاب الحدود في سنة الرماد، وأوقف حصة المؤلفة قلوبهم، وأوقف توزيع
الأرض على الفاتحين، وإنما أبقاها ليد من يزرعها، وما زالت الأرض أميرية للدولة
لعصرنا هذا. ولعل من يخرج في عصرنا باجتهاد كهذا، يكون عرضة للتسفيه، بيد أنه كان
مجتهدا بين أناس يفهمون المقاصد، ومعنى الإسلام ومهمته في الناس أجمعين.
آدم أعطي المعرفة في حافظته، بيد أن المعلومة إن لم تُدَرْ ستنسى، وإن العزم في التفكير والفهم واستنباط معاني للسلوك في معالجة الحياة
وصروفها، وإن أبانا آدم لم يتعامل مع المعلومة، فنسي أن ما يتلقاه من إبليس ليس في
صالحه؛ لأنه يكرهه.
* الحرام بيّن واضح في القرآن ومفصّل تفصيلا لا مخفيا ولا رمزا،
ومن الحرام أن تحرّم بهواك ما لم يحرم الله، والآيات متعددة التي تمنع أن يصدر
تحليل وتحريم بالهوى أو وكالة
الإنسان على الإنسان بالقوة، أو فرض أي شيء على الناس
بدعوى التمكين، فالتمكين للناس وليس على الناس.
من أجل هذا، سنحاول الإجابة عن: كيف ينبغي أن يفهم الإسلام في الشذرات الآتية:
الإسلام في الحكم: تمكين المجتمع لا التمكن عليه
1- أي سلطة أو دولة أو منظومة الحكم، هي منظومة تعاقدية
مع الشعب وفق مفهوم الشورى وبآليات متعددة وفق المتاح لزمنها، ولا يضر إن سميت
خلافة أو رياسة أو أي اسم، المهم المحتوى المؤسساتي لديمومة المهام، وإقامة العدل
لتمكين الشعب لا للتمكن عليه.
2- غاية الحكم كمنظومة إسلامية، هي الإنسان وحماية منظومته العقلية
بالأساس وأمانه وأهليته في الخيار، بلا تسلط أو وكالة من أحد، فما كان بينه وسره
فهو بينه وسره، ولا يحاسب إلا وفق القانون المرعي بحماية المجتمع من النزوات
والجريمة، وما يلحق ضررا بالمنظومة العقلية للإنسان أو الأمن والسلم المجتمعي.
3- مسؤولية الدولة مسؤولية تنظيمية وتمتلك المؤسسات والقوة، لكن
هذا لا يعفي المجتمع من الحفاظ على البيئة، من حيث مسارات الحياة المتعددة، فالمال
مال عام، والنهضة تتم بتعاون الجميع، والنظم تبنى ولا تفرض.
4- لا تدخل الدولة في تفاصيل حياة الناس أو افتراض المسارات
السلبية ووضع القوانين على هذا الافتراض، بل للناس خياراتهم إلا إن أثرت على سلامة
المجتمع، فالفرد مكلف بامتحان الحياة والدولة واجبها حماية منظومته العقلية، وليس
فرض عقيدة أو رأي، وإنما السلوك الضار يكون بقوانين يتعاقد عليها الشعب.
حصر القرآن بالماضي يخالف صلاحيته عبر الزمن ويجعل الأحكام متخلفة عن العصر،
كما هو حال الأمة التي ما زالت تستحضر الخلافات التاريخية لتحتكم إليها، وبعقلية
جهل تجعل الأمور أكثر تطرفا من زمن حصولها، فيكون الدين أديانا وأمما وطوائف وأفهاما
قاصرة، كل يسمي نفسه بغير اسم الإسلام ليتميز عن بقية المسلمين، وما يقود هذا من
فساد في العقائد والسلوك والجهالة المغلفة بالدين على أنها تمسك به، وحب للظلم بين
هذه الفرق، وهو ما جعل الأمة على الهامش منكوبة من نفسها وتزعم أنها منكوبة
بالتآمر، متناسية أن العرب والشرق أمم تبحث عن مصالحها، ووجدت أمة متخلفة غائصة
بالجهل فاستغلتها.
لم يمنح الإسلام الوكالة على البشر لا لحاكم ولا لرسول: "وما
جعلناك عليهم حفيظا"، "وما أنت عليهم بوكيل"، "إن عليك إلا البلاغ"،
"فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 21- 22]، وقال "فإنما
عليك البلاغ وعلينا الحساب" (الرعد: 40).
فالرعوية وتشويه
الأفكار وزرع الفتنة والكراهية وذم المخالف وشيطنته، ينبغي أن يسيطر عليها بقانون
مجتمعي، وليس لأحد فرض عقيدة أو رأي وتعطيل منظومته العقلية؛ والإنسان يحدد موقعه
وفق سلوكياته ويحاسب على أدائه. وهذا النوع من الرقابة مطلوب في منظومة الدولة، لحماية النمط الحياتي ومنظومة الاستقرار والنزاهة في إدارة الدولة.
المعاملة
فطرة الصالحين: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الْحَمِيدِ" (24-الحج)
إن التنوع إيجابي محفز للفكر متى ما كان الطرح بين الأفكار المتعددة طرحا
لرؤية الحقيقة في مناقشة موضوعية، لكن إن بدأ بالتسفيه والبهتان أو الاجتزاء وخلط
التاريخ والجغرافية وغيرها، بهدف الحفاظ على الرعوية ومراكز ومناصب وهالات، فلا أحد
يكون خارج سلطة القانون الذي يرتضيه المجتمع.
فتجد أن الإنسان الراقي يسير في حواره مع الآخر كما تتحرك أم الطير فوق
أفراخها كي لا تؤذيهم، ذلك أنه لا يتعامل بمشاعر إلا الصدق والمحبة كمنهج آدم، وليس
الكره أو التعصب الذي هو منهج إبليس، عندها مهما اختلف الناس فلن يتنافروا. إننا خُلقنا
في دنيا ونظام متحرك لا يثبت ولا يعاد، فإن سكن مات، والجمود هو ضد سنة الكون
المتحرك والمتوسع بالحركة (وإنا لموسعون)، فالجمود على فكرة أو آلية أو رأي، هو موت
عمليّا، وخروج عن الزمن والنظام الكوني.
لعل هذه الشذرات، تنفع في الإضاءة والاستدلال لشذرات أخرى، وإنها لذكرى
والذكرى تنفع المؤمنين.