يحاول الاحتلال الإسرائيلي تدمير كل شيء، منع دخول الملابس والأغطية، وكافة المساعدات الإنسانية، من معابر القطاع، منذ اليوم الأول للحرب، ما عدا كميات قليلة دخلت، فتمّ توزيعها على جزء صغير من النازحين، الذين يبلغ عددهم نحو مليوني شخص، ليظل الباقي مقاوما للحرب من جهة، وللجوع والشتاء من جهة ثانية.
اضطرّ عدد من الأهالي في قلب قطاع غزة، كانوا نازحين في الشاطئ، لجمع ما صمد من الغرق، حيث اجتاحت المياه المنهمرة خيمهم، وجعلت أمانهم اللّحظي، ينقلب لتفكير طويل، إلى أين المفرّ؟
وباتت ظروف البقاء على قيد الحياة تتضاءل لنحو 65 إلى 75 ألف شخص ممّن يقدّر أنهم ما زالوا في شمال غزة. بين 91 محاولة للأمم المتحدة لإيصال المساعدات للشمال المحاصر في الفترة من 6 تشرين الأول/ أكتوبر لـ25 تشرين الثاني/ نوفمبر، رفض الاحتلال 82 منها وعرقل 9؛ بحسب تحذير أتى من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين "الأونروا".
ما بين الصواريخ والجوع.. معيشة الغزّيين تحت المجهر
تتعدّد الوسائل لكن النتيجة تظلّ واحدة، مقاومة لأجل الحياة في قلب أراضيهم المُستحقّة، رافضين الرّحيل القسري، آملين في غد هادئ، وسماء صافية من "طنين" يزاحم يومهم الثّقيل جرّاء الحرب والبحث عن لُقمة هنية.
على مختلف مواقع
التواصل الاجتماعي، خاصة "انستغرام" تابعت "عربي21" خلال الأسابيع القليلة الماضية، جُملة من الحسابات، لشباب من قلب القطاع المحاصر، وهم يوثّقون معيشتهم اليومية، بكافة ما فيها من صعوبات مع ملامح التحدّي، ورصد للأمل.
أحمد مجايدة وابنة أخته ميسون، واحد من الحسابات التي تسلّط الضوء على الروتين اليومي للأهالي في غزة، حيث يوصف في كثير من التعليقات المتسارعة بكونه، صورة مصغّرة عن القطاع المحاصر بكل ما فيه من ألم وأمل. وعلى غراره حسابات أخرى تميط اللثام عن كافة الصعوبات، وتبرز مطالبها بإنهاء الحرب، خاصة عقب وقف إعلان وقف إطلاق النار على جنوب لبنان.
المقاطع المُتداولة بشكل مُتسارع، تقرّ بالصوت والصورة أنّ الصواريخ وقنابل الاحتلال الإسرائيلي، ليست وحدها ما يوجع الكبار ويفتك بأجساد الصغار في قلب
قطاع غزة المُحاصر، بل الجوع أيضا "وحش" يرهق التفكير، إثر الحصار وإغلاق المعابر، وكذا صمت طال مداه، على الرغم من الاحتجاجات الجارية من مواطني عدد من الدول، عبر العالم، منذ عامين من الحرب الهوجاء.
ويعيش 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة في خيام أو مدارس، أو بقلب منازلهم المدمّرة، عقب اضطرارهم للنزوح قسرا، لمرّات عديدة، في أغلبها أُجبروا على ترك ملابسهم وحاجياتهم الشخصية، وخرجوا بما يرتدونه فقط.
وكانت "الأونروا"، الأسبوع الماضي، أكّدت أنّ: "الجوع في قطاع غزة وصل إلى مستويات حرجة، حيث يبحث الناس عن بقايا الطعام في النفايات التي مضى عليها أسابيع".
وأضافت أنّ: "الأوضاع تتدهور بسرعة مع دخول فصل الشتاء، ويصبح بقاء الأهالي مستحيلا من دون مساعدات إنسانية عاجلة"، فيما طالبت عبر تغريدات متتالية على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" بـ"وقف إطلاق النار فورا".
تلوّث وشح في الغذاء
يصف عدد من الغزّيين ما يسري على القطاع المحاصر بكونه "إبادة مُمنهجة" لم يرحم فيها الاحتلال الإسرائيلي لا بشرا ولا حجرا ولا حيوانا، وضع كل من يتواجد في غزة بسلّة واحدة، وسنّ "سياسة تجويع" بجعل الغذاء يصبح مفقودا، وإن وُجد كان غاليا جدا.
ويقول صالح، من شمال غزة، في حديثه لـ"عربي21": "لك أن تتخيّل أن حبّة طماطم واحدة باتت بـ10 دولارات، والتفاحة أصبحنا نعاملها كما لو كانت بطيخا، نقسم الحبّة الواحدة على أفراد الأسرة، ومعدة الصغار تتألّم بكثرة المعلّبات". وهو ما أكّدته عدّة تعليقات من قلب غزة، متحدّثة عن غلاء أسعار الخضر.
ويتابع: "قد تخجلين السؤال عن المرحاض، إنه حفر بدائية غير معزولة، تُحفر بآلات يدوية، وبعمق متر ونصف تقريبا، تُغطّى بشيء صلب أو قُماش"، مردفا: "ما يحزّ في النفس أن عددا من النّازحين باتوا يعتمدون على الآبار الزراعية، وهي التي كان الفلاحون في السابق يحفرونها لري المحاصيل فقط، وهي ملوّثة، وغير صالحة للشرب، خاصة مع انعدام كافة وسائل التعقيم".
وأبرز صالح لـ"عربي21": "كنا بقرب البحر، نستفيد من المياه في الوضوء والغسل، لكن مع حلول فصل الشتاء بات الوضع أصعب، لكنّنا صامدون، وأقوياء نعم، لكنّنا والله بشر، نستحقّ معيشة أفضل، ووقفا عاجلا لإطلاق النار، حتّى يهنأ الصغار على الأقل بنوم مريح".
اظهار أخبار متعلقة
في السياق نفسه، أخرج الاحتلال الإسرائيلي 203 من أصل 319 بئر مياه جوفية عن الخدمة، عبر تدميرها كلّيا أو جزئيا، أو جرّاء عدم إمكانية الوصول إليها وتشغيلها؛ ناهيك عن تدمير 33 خزانا رئيسيا للمياه من إجمالي 50، إذ باتت البلديات تضخ فقط ما يقدّر بـ92.500 متر مكعب يوميا، مقارنة بـ300.000 متر مكعب كانت تضخها قبل بدء العدوان، ما يُضاعف من صعوبة الحياة اليومية.
ما يخيف صالح وغيره من آلاف الغزّيين، هو ما أشارت إليه عدد من التقارير، على مدار أكثر من عام كامل، حيث تمّ إبراز أن الظروف الكارثية المفروضة على غزة، تُنذر بزيادة تعرض الفلسطينيين لأمراض خطيرة، مثل: التهابات الجهاز التنفسي، التهاب الكبد الوبائي، فيروس شلل الأطفال، وغيرها من الأمراض والأوبئة (إثر تلوّث المياه أساسا، وتكدّس النفايات)، في ظل عدم توفر العناية الطبية، والنقص الحاد في الأدوية الأساسية.
بات عدد من الأطفال في غزة، يسيرون حفاة في شوارع مليئة بالحطام ومياه الصرف الصحي، بإصابتهم أو جروحهم غير المشفية، وذلك لأن الأحذية غير متوفّرة، ويرتدون ملابس خفيفة، رغم هطول الأمطار، لأن الاحتلال الإسرائيلي يمنع وصول كل شيء.
انتهاكات صارخة للقانون الدولي
يطالب المجتمع الدولي، دولة الاحتلال الإسرائيلي بتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية، إلى كامل غزة، لمنع حدوث مجاعة، غير أن الأمر دون جدوى. فيما يفترش نحو مليوني نازح فلسطيني، الخيام، التي باتت عُملة نادرة، إذ إن من اهترأت خيمتهم، يفترش العراء، وبات الطّحين يوصف بكونه "الذّهب الأبيض" لغلائه الصاروخي.
وأوضح المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أنه: "لا يوجد أي مبرّر أو ضرورة عسكرية في القانون الدولي تسمح بمنع إدخال الأساسيات إلى السكان المدنيين"، غير أن الاحتلال الإسرائيلي مستمرّ في تعنّته، ضاربا عرض الحائط كافة القوانين والمواثيق المرتبطة بحقوق الإنسان.
أكد المرصد، عبر تقارير متفرّقة، اطّلعت عليها "عربي21" أنّ: "إجمالي ما يدخل قطاع غزة من شاحنات في الفترة الماضية لم يتجاوز 6 في المئة من الاحتياجات اليومية للسكان، وأغلب ذلك يتعلق بمواد غذائية، ولم يتعد ما يخص الملابس والأحذية 0.001 في المئة، ما أدّى لأزمة حقيقية".
في المقابل، بحسب المصدر نفسه، دمّرت دولة الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 70 في المئة من منازل القطاع وجُل المحلاّت التجارية وكذا الأسواق، بما فيها الخاصة ببيع الملابس، فضلا عن تقييد تنسيقات إدخال البضائع للتجار، بينما تكاثرت العصابات التي تستولي على ما يدخل من مساعدات إنسانية.
صُنع في غزة
يُجبر الأهالي في قطاع غزة المحاصر، على الصمود والمُقاومة، جاعلين الحياة تحدّيا صارخا في وجه الاحتلال الإسرائيلي، إذ يبتكرون الأساسيات المفقودة؛ بدلا من الأحذية، يصنعونها من الخشب والقليل من الجلد أو القماش، ويعملون على ترقيع الملابس، أو صنعها من قماش البطانيات.
وحيث شعر الغزّيون أن "الإبادة الجماعية" السّارية عليهم تمسّ كذلك كل ما هو ثقافي وموروث شعبي، باتوا يعملون على صنع ما يحبّون من وجبات، بما هو متوفّر من مواد، من قبيل: "المقلوبة" و"قلاّية البندورة".
وفي موسم قطف الزيتون، الذي انتهى قبل يومين، اجتمعوا على ما قطفوه (رغم قلّته) وصنعوا منه فرحة فلسطينية، من اللبّاس المتوارث جيلا بعد جيل إلى ترديد الأغاني الشعبية.
ورغم الحرب السّارية على بلادهم، يقتنص الغزّيون لحظات الفرح من قلب الوجع، من قبيل حفلات العرس، وأعياد الميلاد، وكذا تجمّعات حفظ القرآن الكريم والفرح بختمه؛ هو ما يوثّقه عدد من الشباب على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ويصل إلى العالم.
وقال عدد من الشباب الغزّيين، تحدّثوا لـ"عربي21" إنهم "شعب يستحق الحياة ويحبّها"؛ ورغم الظروف التي ترهق الحياة، إلاّ أنهم "رافضون المسّ بكرامتهم وبروحهم المعنوية، وتجريدهم من إنسانيتهم ومعاملتهم على أنهم غير مستحقين حتى لأبسط الحقوق الأساسية".
في المقابل، طالب الشّباب أنفسهم، المنظمات الدولية والأممية، والشعوب، بـ"العمل بجميع الوسائل الممكنة للضغط على إسرائيل لإدخال المواد الأساسية لغزة، والكشف عن الجرائم العلنية، وتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية الناتجة عنها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".
اظهار أخبار متعلقة
كذلك، طالبوا بفرض عقوبات على دولة الاحتلال الإسرائيلي وتنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه السابق، يوآف غالانت، وتسليمهم للعدالة الدولية.
وبدعم أمريكي، يشنّ الاحتلال الإسرائيلي، حربا هوجاء، على كامل قطاع غزة المحاصر، أدّت لأكثر من 146 ألف شهيد وجريح فلسطيني، جلّهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قاتلة، في خضم ما بات يُنعت بـ"أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم".