كتاب عربي 21

الإسلاميون في مواجهة الحل الليبرالي

نور الدين العلوي
"لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية"- الأناضول
"لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية"- الأناضول
لسنا بصدد إعادة تعريف الليبرالية، فقد استقر المفهوم في الأذهان وفي التداول اليومي بمعانيه السياسية والاقتصادية، لكن في سياق وضع تصورات ممكنة/ احتمالات/ اجتهادات لانتقال أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربي من خطابها الإسلامي إلى الليبرالية؛ نلتقط اختصارات معادية لليبرالية تركز بالخصوص على المسائل الأخلاقية الوافدة من المجتمعات الليبرالية الغربية في العقود الأخيرة، وتركز على قضايا التعامل البنكي والربا الذي بنيت عليه التجارب الليبرالية الغربية. لذلك نستعيد أسئلة جوهرية في محاولة فهم وإعادة بناء التصور الليبرالي الممكن في تجارب عربية مستقبلية، منطلقين من التشوهات الحادثة على التصور الليبرالي عامة، وتشوهات التجارب السياسية العربية التي لا يمكن بحال تصنيفها ضمن سياقات الليبرالية ولا سياقات الدولة الاجتماعية/الكينزية. وقد يظهر هذا الكلام كفتح أبواب مفتوحة، ولكن حق الاجتهاد والتفكير مكفولان فيما نظن.

هل الليبرالية بيئة غير أخلاقية؟

لم تنتج الليبرالية في التجارب الغربية لحظة ميلادها سلوكيات التحرر الجنسي ولا حرضت على الإباحية، بل تحملت توصيفات المحافظة التي سلطت عليها من تيارات اليسار الأوروبي الذي لم تكن قضايا التحرر الجنسي على أجنداته، بل كان مشغولا بقضايا العدالة في العالم. لقد كان التقسيم الكلاسيكي إلى يمين ويسار يحمل كل ليبرالي نعت المحافظ أو الرجعي، فصار اليمين عنوان المحافظة.

عرفت تيارات اليسار وأحزابه بما في ذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي بداية من النصف الثاني من القرن العشرين تحولات عميقة، فتخلت عن قضايا العمال وتخلت عن مطالب العدالة الاجتماعية، وطرحت قضايا الحريات الفردية وقضايا الجندر، ودفعت إلى أقصى أشكال التحرر الفردي وفي المقدمة تحرير الجسد من كل قيد أخلاقي محافظ.

ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة

لذلك ومن داخل بؤر اليسار الجديد وليس من الأحزاب الليبرالية، ظهرت قضايا المثلية وتحولت إلى مطالب انتخابية وبرامج حكم في كل بلد وصل فيه اليسار إلى السلطة. والمثير للاهتمام أن هذه القضايا صارت ملتصقة فكريا بالليبرالية، حيث يقع خلط متعمد بين ما هو ليبرالي وما هو تحلل أخلاقي. وقد كان اليسار الأوروبي يرى الشركة الليبرالية تنتج البرنوغرافيا بكل ما تحمله من امتهان للجسد، فيوفر لها الغطاء الأيديولوجي باسم حرية الجسد. ووصلت هذه الصورة المشوهة إلى البيئة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية منها بالخصوص، فحصل نفور كامل من كل توصيف ليبرالي.

في ذات الوقت، تحولت الأنظمة العربية التي نشأت بعد معارك التحرير من مشاريع دول اجتماعية كافلة تهتم بشعوب مريضة وجاهلة وفقيرة؛ إلى أنظمة لا يمكن تصنيفها في الليبرالية الاقتصادية ولا يمكن حشرها ضمن مشاريع الدول الكافلة. فهي أنظمة هجينة ومشوهة، لكنها أفلحت في المزج بين دكتاتورية التجارب السياسية السوفييتية وبين التحريض على سلوكيات فردية ليبرالية دون أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية عن ذلك، إذ أنها تواصل التخفي وراء خطاب محافظ لا يتورع عن استعمال الدين في تغطية فشلها في كل مجال.

ولدت حركات الإسلام السياسي وترعرعت في ظل هذه التشوهات فلم تر في الليبرالية إلا جانبها الأخلاقي الفاسد وجانبها السياسي القمعي، فاتخذت منها مواقف معادية ولم تعمل على إعادة بناء مفاهيم الليبرالية بمفردات محلية كما لم تستوعب نماذج الدول الاجتماعية الكافلة فحملت في فكرها تشوهات مزدوجة. غني عن القول أن جماعات اليسار العربي وأحزابه تعيش هذه التشوهات بدرجة أعمق فلا هي اشتراكية ولا هي ليبرالية، ومن نافلة القول إن جماعات اليسار على ضآلة حجمها جرت وراءها جماعات الإسلام السياسي فعمقت تشوهاتها. وقد تجلت هذه التشوهات في صراعات الربيع العربي، حيث لم تتقدم أية تجربة في أي اتجاه ففشلت هذه الجماعات في إنقاذ الثورة من براثن منظومات الحكم السابقة.

عقدة الاقتصاد الربوي

تحتكم الأحزاب الإسلامية إلى نص صريح وقطعي في تحريم الربا، وقد ابتدعت مشاريع الاقتصاد اللاربوي منذ السبعينيات وأسست البنوك الإسلامية على أساس المرابحة، ولكن التجربة كشفت أن المرابحة أعلى كلفة من الربا فلم تُحدث تحولا في أية تجربة اقتصادية عربية. وإلى ذلك لم تنشأ كتل سياسية عربية على غرار السوق الأوروبية المشتركة قادرة على بناء أسواق وأنظمة تبادل بينية تحرر اقتصاد العرب من الإلحاق بنظام المصارف الربوية الغربية، فظلت تابعة الحكومات تتعامل مع المقرضين الدوليين بالربا، وظلت الأحزاب الإسلامية تحرمه على الأفراد.

وقد شكل هذا عقدة في منشار الأحزاب الإسلامية التي رأت التحريم ولم تر سبل الخروج من اقتصاد عالمي ربوي بالأساس، وقد واجهت المعضلة بمجرد وصولها إلى السلطة على قصر التجربة في تونس والمغرب ومصر. وحتى حماس البعض لمشروع بريكس الساعي إلى التشكل يغفل أنه مشروع اقتصاد ربوي آخر، وليس تجربة مختلفة وإن زعم التبادل بالمقايضة. إنه حماس عاطفي للتحرر من الهيمنة الأمريكية والأوروبية لكنه يقع في نفس المطب الربوي.

في ذات الوقت، فإن الأحزاب الإسلامية واقعة في مشكل آخر هو خيار الدولة الاجتماعية الذي يقدم الاجتماعي على النجاعة الاقتصادية، وهذا النموذج مهما حظي بالدعاية اليسارية هو نموذج ليبرالي مخفف يقوم على قواعد ربوية منذ نشأته.

هل يمكن للإسلامي تجاوز التحريم والقبول بالاندماج في اقتصاد ربوي؟ هذا سؤال جوهري لا تمكن معالجته بالشطح على النصوص القطعية أو بفتاوى (نص كم)، فإما قبول واندماج إلى حين أو الخروج من العمل السياسي بلا تردد، رغم أن كل خروج سيجعل الفرد الإسلامي مجبرا على التعامل الربوي أو البقاء خارج كل دورة اقتصادية محلية، ولا يمكنه بحال إنشاء منظومة غير ربوية صغرى داخل منظومة ربوية شاملة.

يمكنه أن يدعو وينظم فعليا حياة اجتماعية محافظة معتمدا على توجيهات دينية تعلى من شأن الأسرة، حيث تحفظ الأخلاق والجسد لكن الجانب السلوكي الشخصي لا يكفي لتنظيم حياة اجتماعية شاملة.

فإذا أصر على التفكير والعمل خارج منظومة الربا الكونية فإنه ملزم بالبدء من نقطة أخرى؛ هي وضع مشروع التحرر السياسي والاقتصادي الشامل، أي أن يعود إلى وضع حركة تحرر أصلية وبوسائل التحرر السياسي بما في ذلك الكفاح المسلح (أو نموذج حماس)، وهو أمر لم يعد متاحا في دول قائمة ولها أنصار لا يتفقون مع هذه الرؤية التحريرية، بل يطيب لهم الاندماج بشكله الجاري الآن. فضلا عن ذلك، فإن وضع التشتت القُطري الحالي لا ينتج حلا شاملا، فتحرير قُطر وحيد لا ينتج سوقا فوق قُطرية غير ربوية، بما يعسر مهمة كل الأحزاب الإسلامية في كل قُطر.

مشروع تربوي فقط
لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي

من هذه الزاوية لم يبق للأحزاب الإسلامية الا مشروع تربوي يخفف من غلواء الليبرالية الزاحفة والتي وصلت إلى العرب مشوهة بيسارية مزيفة، فإما البقاء في هذا المستوى من العمل التربوي الفردي أو التحلل من كل التزام سياسي لا يتجاوز نص التحريم ويسقط في مشروع اقتصادي ليبرالي أي ربوي بالقوة.

نظن يقينا أن الأحزاب الإسلامية لو قدر لها أن تحكم (وهي مطاردة دوما) ستجد نفسها في نفس الوضع التي وجدت فيه الأنظمة العربية نفسها لحظة الاستقلال. لقد طاوعت تلك الدول الناشئة التيار السائد، مقدمة النجاعة الاقتصادية على سلامة الأسس النظرية أو الفقهية لبناء اقتصادياتها. لم تكن تلك الأنظمة ليبرالية بمحض اختيارها، فقد نشأت أضعف من أن تواجه الاقتصاد العالمي فاندست فيه بما تيسر لها.

ونختم بصورة ذات دلالة على المأزق الذي وجدت في الأحزاب الإسلامية نفسها عندما استلمت جزءا من السلطة، لقد تم جر نائبة متحجبة من حزب النهضة في تونس إلى زيارة معصرة خمور، وكان أقصى ما استطاعت فعله لتجنب الحرج أن بقيت خارج المعصرة تنتظر بقية الفريق التفقدي. لم يمكن لإسلامي حكم أن يذكر بتحريم الخمر إنتاجا وترويجا، وقد كان هذا على أجندته النظرية.

مفردات الواقع المبنية قبله جعلت مهمته السياسية القائمة على نصوص قطيعة الورود قطيعة الدلالة عائقا في طريق نجاحه السياسي. لم يكن الحرج ظاهرا وهو يعارض الأنظمة، لكنه لما واجه المعضلات الواقعية وواجه النص المؤسس أيضا وهو في وضع ملتبس؛ فإما الحكم بشروط الواقع القائم أو البقاء في سلامة نصه خارج كل مشاركة. إذا فتح فشل الربيع العربي على مشاريع تفكير من هذا القبيل فإنه يكون قد مهد لمرحلة فكرية متطورة تؤدي إلى مستقبل مختلف تقوده أحزاب ليبرالية. ليت النقاشات تتركز هنا.
التعليقات (0)