قبل سنة من الآن، أي قبل “الطوفان”، بدت الشعوب الإسلامية في كافة الأقطار وكأنها بعيدة عن القدس وعن القضية الفلسطينية، وبات باستطاعة بعض السياسيين وحتى بعض القادة أن يتجرؤوا على التاريخ الإسلامي وتاريخ فلسطين، ومنهم من لم يتردّد في الإعلان عن أحقية الصهاينة في احتلال فلسطين، ناهيك عن من أصبح يتباهى بزيارته للكيان المحتل وبنشر فيديوهاته عبر شبكات التواصل الاجتماعي بدون خوف ولا خجل..
وبدأنا جميعا نشعر وكأن المدافعين عن القدس وعن فلسطين أصبحوا أقلية، ونادرا ما تجدنا نشاهد عبر شاشات التلفزيون من يذكّرنا بتاريخ فلسطين وببطولات الشعب الفلسطيني أو بثوراته عبر التاريخ، وكأن عزالدين القسّام قد أصبح من تراث الماضي، وكأن المصير الذي ينتظر فلسطين هو ذاك الذي عرفته الأندلس! وهل هناك من يفكر اليوم في تحرير الأندلس والعودة إلى غرناطة أو قرطبة؟
وكأننا كنَّا في فلسطين سنة 2023 نعيش في
الجزائر سنة 1923 حيث قضى الاستعمار على آخر مقاومة شعبية في الأوراس سنة 2012، ثم خرج منتصرا مع حلفائه من الحرب وقد تمت الإطاحة بالخلافة الإسلامية، وأصبح الفرنسي يهيء نفسه للاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر وإعلانها فرنسيتها إلى الأبد.. فإذا بالاستعمار الفرنسي يشهد في تلك الفترة بالذات ميلاد النواة الأولى للحزب الذي سيعدّ لثورة نوفمبر التحريرية، وإذا بالسنوات اللاحقة تعرف نشأة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ستحدث التحوّل الكبير في وعي الجزائريين بأنهم والاستعمار نقيض وبأن الجزائر هي لهم وليست للمحتل الغاصب، وإذا بتلاحم الوعي الديني والسياسي ينجب ثورة من أعظم الثورات بالتاريخ…
ويتكرر المشهد اليوم في تأكيد واضح لقواعد السنة الإلهية في الأنفس والآفاق والهداية والتأييد على حد تصنيف المفكر الجزائري الطيب برغوث، حفظه الله، حيث بدت هذه السنن الإلهية وكأنها تتجسّد في لحظة فارقة من لحظات التاريخ كانت هي لحظة “الطوفان”.. إذ فيها لاحت في الأفق تباشير النصر القادم وتباشير تحرير فلسطين والقدس، كما لاحت بعد سنة 1930 تباشير تحرير الجزائر واستقلالها…
ولذلك، كانت تلك الهجمة الوحشية وذلك التحالف الغربي غير المسبوق ضد ثلة من المجاهدين رفعوا رايات عزالدين القسّام ورايات صلاح الدين، فكانت كتائب “القسّام” وكانت “ألوية صلاح الدين”، وكانت كل تلك الطائرات المسيّرة والأسلحة التي تحمل أسماء من ساروا على دربهم..
وكما التفت الشعوب العربية والمسلمة والتف أحرار العالم حول القضية الجزائرية بالأمس، حدث نفس الشيء اليوم للقضية الفلسطينية، بعدما حدث في السابع من أكتوبر 2023، وما فتئ هذا الوعي يتحوّل إلى أن صار على ما هو عليه الآن..
لم يعد هناك من يستطيع التباهي بدعم المجرمين الصهاينة ولا بزيارة كيانهم، ولا أحد يستطيع إنكار تلك التضحيات غير المسبوقة للشعب الفلسطيني من أجل حريته واستقلاله، ناهيك عن أن يتحدث عن حق الصهاينة في فلسطين.. ولم تخذل
المقاومة في لبنان والعراق واليمن نظيرتها في فلسطين، ولم تتردّد دول كثيرة قريبة منها وبعيدة بالدعم المباشر وغير المباشر، ولم يبخل ملايين المسلمين بالدعم المادي والمعنوي لإخوانهم في الأراضي المحتلة، وإن منع الكثير منهم من ذلك.. بما يدل أن أهم انتصار حققته معركة “طوفان الأقصى” هو الانتصار على جبهة الوعي.. وهذا الانتصار له ما بعده ليتحوّل بعد حين إلى نصر كامل على الأرض، بإذن الله، ولعل الزمن الفاصل بين الانتصار في معركة الوعي والانتصار في ميدان المعركة لن يطول… ولنا في التاريخ عبرة.
(الشروق الجزائرية)