يوم الاثنين ليلة الثلاثاء في الحادي والعشرين من شهر جمادى
الثانية للسنة الثالثة عشرة للهجرة والذي يوافق الثاني والعشرين من شهر آب/ أغسطس من
سنة 634م، غادر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه
دنيانا الفانية ليلتقي بصاحبه وحبيبه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ولكن هل مات أبو بكر رضي الله ميتة طبيعيّة أم إنّه
تعرّض لعمليّة
اغتيال فقضى شهيدا مقتولا مغدورا؟
عموم الروايات التي يتناقلها المتحدّثون عن وفاة أبي بكر
رضي الله عنه تركّز على آخر أسبوعين من حياته وإصابته بالحمّى بعد استحمامه، وهو
ما أخرجه الواقدي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أول بدء مرض أبي
بكر؛ أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحُمّ خمسة
عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وتوفي ليلة الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة
ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة".
وهذا الخبر لا ينقل الصورة الكاملة لما جرى مع أبي بكرٍ
الصديق رضي الله عنه، وهذه الحادثة لا تنفي الحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون وهي
أنّ أبا بكر رضي الله عنه تعرّض لعمليّة اغتيال قام بها اليهود، وذلك عن طريق دسّ
سمّ طويل الأمد له في الطعام في عمليّة اغتيال تشبه تلك التي تعرّض لها رسول الله
صلى الله عليه وسلّم حين دسّ له اليهود السمّ في خيبر، وكان استشهاده صلى الله
عليه وسلّم نتيجة السمّ الذي وضع له في الشاة وأكل منها. فقد أخرج البخاريّ في
صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النّبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه
الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزالُ أجد ألم الطّعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ
انقطاع أبهري من ذلك السّم".
يذكر السيوطي في "
تاريخ الخلفاء" وغيره:
"أخرج ابن سعد والحاكم بسندٍ صحيح عن ابن شهاب: أنّ أبا بكر والحارث بن كلدة كانا
يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: "ارفع يدك يا خليفة رسول
الله، والله إن فيها لسم سنة، وأنا وأنت نموت في يوم واحد"، فرفع يده، فلم يزالا
عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة.
وهذا الخبر واضح في اكتشاف الحارث بن كلدة للسمّ المدسوس
لهما في الخزيرة، وهي كما يقول قال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم، وقال غيره مثل
القتبي وتبعه الجوهري: الخزيرة أن يؤخذ اللحم فيقطع صغارا ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا
نضج ذرّ عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة.
وأما الحارث بن كلدة الذي اكتشف السمّ فهو أشهر أطباء
العرب حينها، وكانت العرب تلقبه في الجاهليّة بـ"طبيب العرب"، وبقي على
لقبه في الإسلام، وقد ورد في مهارته ما ذكره ابن حجر العسقلاني في "الإصابة
في تمييز الصحابة" وأخرجه أبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ قال: "مرضت
مرضا أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها
على فؤادي فقال: إنّك رجل مفؤود؛ ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنّه رجل يتطبّب، فليأخذ
سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلدك بهن".
وقال عنه جمال الدين القفطي في "إخبار العلماء
بأخبار الحكماء": "وأدرك الحارث بن كلدة الإسلام وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيسأله عن علته". فنحن إذن نتحدّث عن
تشخيص أمهر المتخصصين بالطبّ للواقعة، فقد كان قادرا على اكتشاف وجود السمّ وقادرا
على تحديد نوعه ومدى خطره وزمان تأثيره.
وكان هذا الأمر شائعا في حينه، فهو ليس سرا نكتشفه عقب
مرور هذه القرون كلّها، بل كان النّاس يتحدّثون به ويتناقلونه، ومن ذلك ما ذكره
السيوطي في "تاريخ الخلفاء": "وأخرج الحاكم عن الشعبي قال: ماذا نتوقع
من هذه الدنيا الدنية وقد سُمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمّ أبو بكر".
ففي زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت هناك
كيانات معادية للدولة بعدما تعرض اليهود للإجلاء والعقاب نتيجة غدرهم المتكرر
وخياناتهم المتعاقبة ونقضهم للعهود والمواثيق في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلّم. فنحن إذن أمام حادثة اغتيال سياسيّ يتعرّض لها أول حاكم للدولة الإسلاميّة
في بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومن إحياء الذّاكرة وإيقاظها أن تبرز هذه
الحقائق الغائبة أو المغفول عنها في هذا الزمن، فإنّ فيها عِبرا لأُولي الألباب في
ساح المواجهة المحتدمة.
x.com/muhammadkhm