نشرت دار الإفتاء الليبية
الفتاوى التي صدرت
عنها خلال عشر سنوات، منذ بداية الثورة الليبية سنة 2011م، في عشر مجلدات، وهي ثروة
فقهية وتوثيقية للمجتمع الليبي في غاية الأهمية، وقد دار نقاش كبير بين أهل
التاريخ حول: هل تعد كتب الفتاوى والنوازل وثائق ومراجع للتاريخ أم لا؟ ورفض البعض
اعتمادها كوثائق تاريخية، لأن بعض الأسئلة والأجوبة أحيانا تكون افتراضية، ورأيي:
أنها تصلح كوثائق تاريخية، وكأحد مصادر التاريخ، وذلك في الشق الحقيقي منها،
المعبر عن الحالات التي تنطلق من أسئلة مجتمعية، ولو كانت تحمل سؤالا شخصيا.
وفتاوى دار الإفتاء الليبية، ندر أن تجد
فيها سؤالا افتراضيا، بل كلها أسئلة من الواقع الليبي المعيش، حيث ينعم الناس بقدر
من حرية التعبير، وحرية السؤال، وينعم المفتي بقدر كبير من حرية الجواب، ولذا تكون
مثل هذه الفتاوى معبرة بقدر كبير عن المجتمع الليبي في مرحلة من مراحله المعاصرة.
فاشتلمت الفتاوى على عدد غير قليل يتعلق
بمجريات الثورة الليبية، وما تلاها من أحداث، سواء من الثوار، وما يتعلق بهم من
فتاوى، من حيث حراكهم السياسي، أو من حيث حقوقهم المالية والسياسية في
ليبيا ما
بعد الثورة، أو ما يتعلق بالمسؤولين عن هذه السنوات العشر، من مسؤولين سياسيين
وتنفيذيين، وقد كانت الفتاوى تطلب من المواطنين والمسؤولين، والجهات الحكومية
والشعبية على حد سواء، وهو ما يمثل كنزا تاريخيا ومجتمعيا ودينيا عن هذه المرحلة
المهمة في التاريخ الليبي المعاصر.
فتاوى تعبر عن ليبيا بعد الحرية
من أبرز ما يلمسه قارئ فتاوى دار الإفتاء
الليبية، أن كثيرا من الفتاوى والأسئلة تدل على مساحة كبيرة وهائلة من الحرية
يعيشها المواطن، حيث إن الأسئلة في كثير منها يتعلق بمناحي الحياة في ليبيا، ولذا
لا تجد فتاوى تتعلق بالخروج على الحاكم، وهل التظاهر يعد خروجا عليه أم لا؟ لأنه
لم يعد هناك حاكم يمنع التظاهر، ولا يتهم من يقوم به بالخروج عليه، أو على ولي
الأمر، كما كان يشيع شيوخ السلطة، وأتباع الفكر المدخلي في ربوع الوطن العربي، فقد
فرضت الثورة واقعا آخر، وأسئلة أخرى، كانت نتاج خروج الشعب الليبي مطالبا بحريته.
فتاوى دار الإفتاء الليبية، ندر أن تجد فيها سؤالا افتراضيا، بل كلها أسئلة من الواقع الليبي المعيش، حيث ينعم الناس بقدر من حرية التعبير، وحرية السؤال، وينعم المفتي بقدر كبير من حرية الجواب، ولذا تكون مثل هذه الفتاوى معبرة بقدر كبير عن المجتمع الليبي في مرحلة من مراحله المعاصرة.
ستجد أسئلة متعلقة بالدولة بعد الثورة،
والدولة الليبية وكيف تبنى، وعن علاقاتها بالأنظمة المختلفة، وكيفية التعامل مع
أتباع النظام القديم، وإلى أي درجة يعد الشخص محسوبا على النظام، أو مجرما بحق
الشعب، أو موظفا يؤدي عمله بمهنية بعيدا عن الفساد، أو أن يكون أداة للظلم؟
والعلاقة مع المنظمات الدولية كالصليب الأحمر، وغيرها من المنظمات، وقد كانت
الفتاوى مشددة في العلاقة مع المنظمات الغربية، نظرا لتاريخها معها، ولما بدر منها
معهم، ولذا كانت إجابات المفتين مبنية على ما ترسخ لديهم من مواقف، وما ثبت عندهم
من معلومات، أصبحت ذات حساسية شديدة لدى المواطن الليبي، مما جعل الفتوى تدور في
هذا الفلك، من باب الحرص على مصلحة الوطن والمواطن.
مركزية الدين والقبيلة في المجتمع الليبي
أبرزت الفتاوى مدى تجذر الدين في المجتمع
الليبي بكل شرائحه الاجتماعية، فمستوى الأسئلة التي تسأل، وتنوع موضوعاتها، من
أسئلة متعلقة بالعبادة وقد استغرقت عشرة بالمائة من الفتاوى، بينما بقية مجلداتها
كانت عن مجالات الأسرة والحياة بكل مستجداتها، ومدى حرص الليبيين على معرفة
رأي
الشرع فيما يقدمون عليه، وبخاصة فيما يستجد من قضايا متعلقة بالتطور العلمي في
الطب والحياة بوجه عام.
فبالرغم من حضور البعد القبلي بقوة في
ليبيا، كما يتضح ذلك من خلال الأسئلة، ومع ذلك لا يصطدم في مجمله مع الدين، بل
ينزل على حكمه فيما يتعلق ببعض القضايا القبلية المهمة، من ذلك سؤال تقدم به مواطن
ليبي النسب، وقد هرب به أبوه منذ سنوات طويلة خارج ليبيا، وولد خارجها في دولة
مجاورة، ونسب بحكم الظروف لنسب آخر غير قبيلة أبيه، ولما تحسنت ظروف ليبيا وأراد
العودة لها بعد الثورة، وجد كل جيل أبيه قد رحل، ولكن قبيلته واثقة من نسبته
إليهم، لكن لا شهود ولا أوراق على ذلك، فعرض عليهم أن يجروا اختبار البصمة
الوراثية (DNA)، فقبلت
القبيلة بذلك، شريطة أن يأتي بفتوى تجيز لهم الأخذ بالتحليل، وأفتتهم دار الإفتاء
بجواز ذلك.
وهو أيضا ما يراعيه الإفتاء فيما يتعلق
بعادات وأعراف القبائل، فيما لا يتعارض مع الشرع، وما يحقق الأمن المجتمعي، ومن
ذلك فتواهم في قاتل أراد أهله التصالح مع أهل القتيل، فاشترط أهل القتيل أن يرحل
القاتل وأهله عن مدينتهم، ولا يعودون إليها، مقابل عفوهم عنه، وبذلك يسقط القصاص
عن القاتل، وقبل أهل القاتل بذلك، ثم تراجعوا بعد فترة، فكانت الفتوى بلزوم
الاتفاق المزمع، وعدم التراجع فيه، وإلا يسقط العفو عن القاتل.
أسئلة تعبر عن أزمة هوية
يلمح القارئ للفتاوى أسئلة عديدة تعبر بوضوح
عن شعور بأزمة بدأت تنتاب المجتمع الليبي، تتلعق بالهوية الإسلامية، فيما يتعلق
بأسماء الأطفال، فتجد ما يقرب من أربعين سؤالا كلها متعلقة بهل يجوز شرعا التسمي
بكذا، وتغيير أسماء إلى أسماء أخرى، منها أسماء غير عربية، أو أسماء تراثية تعبر
عن ثقافة معينة، وذلك سواء كانت الأسماء متعلقة بذكور أو إناث، وربما وجد البعض
أنها مجرد أسئلة عادية، لكن بالنظر لنسبة الأسئلة، مقارنة بكتب فتاوى الدول
العربية الأخرى، لن تجد هذه النسبة، فلدينا مثلا: فتاوى دار الإفتاء المصرية، وقد
صدرت في (54) مجلدا، وغيرها فتاوى دول أخرى، لا تجد فيها هذا العدد من الأسئلة حول
أسماء معينة، ومدى جواز التسمي بها، وهل يجوز تغيير بعضها إلى أسماء أخرى أم لا؟
تلك نماذج قليلة جدا، استطعت من خلالها
النظر على بعض ملامح المجتمع الليبي من خلال استفتاءاته، والموضوع مطروح لتناول
أوسع من أهل الاختصاص، وهو جدير بذلك، والمادة سهلة متوفرة، يمكن من خلالها رصد
وتحليل شرائح المجتمع من خلال الفتاوى، وكذلك الإسهام فيما يطلق عليه: علم اجتماع
الفتوى، وإذا كنا نفتقد في بعض مراحل تاريخنا المعاصر التوثيق، فإن مثل هذه
الفتاوى المطبوعة والمتوفرة، تعد حقلا خصبا للبحث الديني والاجتماعي والسياسي في
وقت واحد لكل أهل اختصاص ومجال.
[email protected]