قضايا وآراء

اللؤم والأذى: سلطة عباس.. ماذا بعد؟

هشام الحمامي
"حاجة إسرائيل والغرب للسيد عباس والسلطة ليس فيها أي تقدير، إلا بالقدر الذي يُمكنهم من السيطرة والتحكم في المقاومة وتفكيكها" - الأناضول
"حاجة إسرائيل والغرب للسيد عباس والسلطة ليس فيها أي تقدير، إلا بالقدر الذي يُمكنهم من السيطرة والتحكم في المقاومة وتفكيكها" - الأناضول
يقينا وواقعا لا يستطيع أي مكابر إنكار أن "طوفان الأقصى" أحدثت قفزة نوعية وتاريخية هائلة، في معادلة الصراع العربي/ الإسرائيلي، وقد كانت بالفعل كالرياح العاتية، التي طهرت مجرى هذا الصراع المعقد من الكثير من قاذوراته التي ملأته طوال السنوات الأخيرة..

ولعلنا نتذكر مقولة جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الأمنية والعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي: "لقد تصورنا أن الصراع انتهى، ولم يعد هناك ما يعرف بالقضية الفلسطينية".. ومتى؟ بعد عملية سيف القدس! أي منذ ثلاث سنوات!.. ولنا أن نتخيل التطور الموضوعي والطبيعي لهذه الجملة بعد "طوفان الأقصى"، بكل الاعتبارات الكمية والنوعية والتاريخية.

* * *

كان الجميع قبلها في حالة من السعادة والبهجة اللذيذة، وأسعدهم بالطبع كان نتنياهو، الذي كان يطوف العالم بخريطته الواعدة بشرق أوسط ينبض بقلب إسرائيلي ويفكر بعقل إسرائيلي، وقد يكون ذلك مفهوما منه؛ لكن كيف يُفهم موقف السلطة الوطنية الفلسطينية (سلطة عباس)، والتي أثبتت في كل وقت وفي كل مرحلة، أنها ليست وطنية ولا فلسطينية؟ وبكل معايير السياسة والواقع لا يمكن وصفها بغير ذلك، وهو الأمر الذي كان من الصعب قبوله واستمراره. ولم يطل الانتظار في الحقيقة.. فقد أتى الطوفان..
كيف يُفهم موقف السلطة الوطنية الفلسطينية (سلطة عباس)، والتي أثبتت في كل وقت وفي كل مرحلة، أنها ليست وطنية ولا فلسطينية؟ وبكل معايير السياسة والواقع لا يمكن وصفها بغير ذلك، وهو الأمر الذي كان من الصعب قبوله واستمراره

* * *

هل نقول هنا مع الشاعر الجميل محمود درويش (ت: 2008م) الوداع لما قد يأتي ولا يصل..؟

لا.. فها هو قد أتى ووصل يا شاعر الأمل والأحزان، وكان على الجميع أن يُعد العدة لهذا الذي أتى ووصل.. الجميع، ولا يُستثنى منهم أحد.. عربيا ودوليا.

وعلى رأس الجميع بالطبع كانت السلطة في رام الله. ولن نقف كثيرا عند ما قاله ويقوله السيد عباس في كل فرصة للقول، ولا عما فعله ويفعله ماجد فرج، رئيس مخابرات السلطة، ولا حسين الشيخ، ولا حتى أقوال الأستاذ هباش الذي يحتوي الحقائق كلها في جوفه، ويصرخ من على كل منبر منددا بالمقاومة وما تفعله المقاومة..

* * *

فقط سنترك المفكر الكبير إدوارد سعيد (ت: 2003م) يحكي لنا طرفا من قصة "سلطة رام الله" في كتابه الشهير "غزة أريحا: سلام أمريكي" الذي صدر سنة 1995م.

يقول: "ويتضح هذا الخلل في التوجه بأمضى صوره في مجال التعبئة لنصرة نضال الشعب الفلسطيني، الذي أتشرف بالانتماء إليه، والذي خدمت في صفوف حركته الوطنية، وصولا إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1977 وحتى استقالتي منه عام 1991. وقد جاءت استقالتي من المجلس الوطني في أعقاب اكتشاف الأطباء أنني أعاني من مرض اللوكيميا. إلا أن المرض لم يكن هو الباعث الوحيد وراء الاستقالة. فقد كانت هناك أيضاً الشروط التي قبلتها القيادة الفلسطينية حتى يتسنى لها الذهاب إلى مدريد، والتي كنت أرى أنها ستؤدي بنا إلى كارثة".

"أخذت أرى بوضوح، ومنذ العام 1991، الأسلوب الذي يتم به إهدار المكاسب التي حققتها الانتفاضة، بل وإصرار ياسر عرفات وحفنة من مستشاريه على قبول أي شيء تلقي به الولايات المتحدة وإسرائيل في طريقهم، حتى لا يفوتهم ركب "عملية السلام". فقد وجدت قيادة منظمة التحرير نفسها، وفي خضم حالة الفوضى والذعر من المستقبل، تفرط في كافة الأهداف الوطنية والمشروعة للشعب الفلسطيني لصالح ما يعرف "بالحل الانتقالي".

"وقد جاء إعلان مبادئ أوسلو، الذي تم الاحتفال بالتوقيع عليه في حديقة البيت الأبيض في سبتمبر الماضي (1993)، بالمزيد من التنازلات (..). فقد تنازلت القيادة الفلسطينية، ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني الحديث، لا عن حق تقرير المصير فقط، بل وعن القدس وقضية اللاجئين، حيث ارجأت هذه الأمور مجتمعة إلى مفاوضات "المرحلة النهائية" غير المحدودة الشروط".

" تتكشف لنا الحقائق فنعرف أن الجانب الفلسطيني ذهب للتفاوض على اتفاقية ملزمة دوليا (..) تم بمقتضاها تفكيك بنية المقاومة الفلسطينية بأكملها".. انتهى كلام د. إدوارد سعيد..

الأخطر والأخطر أن السلطة في رام الله والسيد عباس ومعاونيه لا زالوا قائمين على هذا الإرث الكريه المتعفن، والمرفوض تماما من صفوة العقول الفلسطينية
وهذا كلام تقفز الكلمات والعبارات فيه قفزا لتعبر عن عالم ومرحلة، وموت كاد أن يكون محتما. هذا كلام خطير، وخطورته ليست فقط فيمن قاله، ولكن في كونه حدث بالفعل.

* * *

لكن الأخطر والأخطر أن السلطة في رام الله والسيد عباس ومعاونيه لا زالوا قائمين على هذا الإرث الكريه المتعفن، والمرفوض تماما من صفوة العقول الفلسطينية.

والمفترض أنه خلال الفترة الجارية ومن خلال تصريحات متكررة لوزير الخارجية الأمريكي بلينكن أن تقوم السلطة الوطنية بدخول غزة في "اليوم التالي" للحرب بالاشتراك مع قوة أممية وإقليمية، وقد سارعت الإمارات بإعلان الموافقة على مشاركتها في هذه القوة..

الحكمة القديمة تقول: "لا تخسر ما هو ضروري، من أجل شيء مشكوك في حصولك عليه".. وحدة الصف الفلسطيني الآن وأكثر من أي وقت مضى "ضرورة" لا يمكن التضحية بها وخسارتها من أجل ما هو مشكوك في الحصول عليه، وأقصد حل الدولتين، والذي أغنانا الكنيست برفضه الأربعاء الماضي (17 تموز/ يوليو).

فهل السيد عباس والسلطة على استعداد لفهم ذلك، ويكفوا عن القيام بهذا الدور المشبوه بالغ اللؤم والأذى؟

* * *

الحقيقة والواقع يقولان إن الناس لا يقدّرون إلا من يحتاجون إليه.. وحاجة إسرائيل والغرب للسيد عباس والسلطة ليس فيها أي تقدير، إلا بالقدر الذي يُمكنهم من السيطرة والتحكم في المقاومة وتفكيكها، كما قال د. إدوارد سعيد منذ ما يقرب من ثلاثين سنة..

وقد أحسن د. مصطفي البرغوثي لنفسه ولنا ولقضية الأمة كلها، حين استنكر بيان السلطة الذي صدر يوم 14 تموز/ يوليو، وتتهم فيه بكل غدر وخسة المقاومة بأنها أوجدت الذريعة للإبادة التي تجري في غزة!

المشكلة هنا ليست في خطأ القراءة الاستراتيجية للحاضر والمستقبل، المشكلة في الخطأ الفاحش في حق التاريخ، بل وفي حق المعلومات العامة التي يعرفها أبسط عربي من ثلاثينيات القرن الماضي.

المشكلة هنا ليست في خطأ القراءة الاستراتيجية للحاضر والمستقبل، المشكلة في الخطأ الفاحش في حق التاريخ، بل وفي حق المعلومات العامة التي يعرفها أبسط عربي من ثلاثينيات القرن الماضي
* * *

السيد عباس وزملاؤه لا يريدون الجلوس في منازلهم يتطلعون إلى جدرانها صامتين منتظرين المرض والموت، لكن لا يمكن لهم الاستمرار في القيام بنفس الدور، الذي قاموا به أولا بابتلاع الانتفاضة واحتوائها، ومنع أي عمل مقاوم ضد المحتل بحجة أنه ضد المشروع الوطني الفلسطيني! في تكرار ممسوخ لأهازيج الستينيات المليئة بالهزائم..

الطريف في الموضوع أنهم يتحدثون بجدية بالغة، وتأخذ وجوههم -وهم يقولون ذلك- تعبيرات تدل على التفكير العميق، والصرامة الصارمة (الأستاذ هباش نموذجا).

لا يمكن أبدا أن يكون ثانية ما كان أولا، فقد تغير كل شيء بعد "طوفان الأقصى".. فعلا تغير كل شيء، من نظرة الغرب السياسي لإسرائيل، إلى الشعوب الغربية نفسها.. وحتى في نظرة إسرائيل لنفسها.

والقادم أقوى وأوقع..

* * *

يقولون إنه لا شيء ينفع في إصلاح المرء، كما تنفعه ذكرى ماض نادم عليه.. لكن المشكلة أنهم في السلطة غير نادمين، فكيف سيُصلحون؟

x.com/helhamamy
التعليقات (0)