كتاب عربي 21

التدافع الحضاري وأصول المقاومة.. قاموس المقاومة (12)

سيف الدين عبد الفتاح
"التدافعية العمرانية" في فلسطين- الأناضول
"التدافعية العمرانية" في فلسطين- الأناضول
التدافع الحضاري حركة فعل ممتد، حركة إيجابية عمرانية فاعلة؛ مانعة لكل أنماط التخريب الكوني والجماعي والفردي، ودافعة إلى تيسير وتحقيق كل الفاعليات الكونية بمقتضى التسخير للعمارة الحضارية الكونية والتيسير لها واستمرارها، وهي رافعة لكل عمل حضاري يشكل إضافة عمرانية إلى الكون وفيه صلاحه وإصلاحه.

التدافع الحضاري تحريك للقدرات الإيجابية للإنسان واستثمار للمكنونات الكونية التسخيرية للحفاظ على شرط العمارة الكونية، وهو التكريم الإنساني الذي يضمن لتلك القدرات الإيجابية عملا عميقا ممتدا في الزمان والمكان والإنسان، في عالم الأفكار والأشياء والأشخاص والأحداث. والدفع عمل حضاري مفتوح للعودة بأطر التوازن الكوني والعدل في العمارة الكونية إلى حقيقته وجوهره، "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، بحيث يجعل من حركة الدفع الحضارية غاية هادفة إلى الإحسان الحضاري بكل تنوعاته ومجالاته.

ومن هنا تبدو حركة الدفع الحافظة لجملة العلاقات الدولية المتشابكة، وحركة التعامل الدولي المساندة، ووقائع العلاقات الخارجية المتفاعلة، هي الأساس في منع عناصر التخريب والخراب الحضاري، وفي المقابل تعمل على تشييد العمارة الكونية الحضارية كفعل إيجابي من جانب آخر.

تبدو حركة الدفع الحافظة لجملة العلاقات الدولية المتشابكة، وحركة التعامل الدولي المساندة، ووقائع العلاقات الخارجية المتفاعلة، هي الأساس في منع عناصر التخريب والخراب الحضاري، وفي المقابل تعمل على تشييد العمارة الكونية الحضارية كفعل إيجابي

وعلاقات التدافع الحضاري حركة متنوعة الأشكال، ممتدة الأهداف عالية القيمة في الحفاظ والبناء. تتنوع هذه الحركة التي تأخذ شكل التحدي والمجابهة، كما تأخذ شكل الحوار والتفاعل، وتأخذ شكل التعاون البناء، ومن ثم قيمة الحركة في عملية التدافع تتعلق بمقصدها العام في العمارة؛ حركة التدافع الحضاري التي تتشكل في عناصر مجابهة وتحد، ورفض، ومواجهة ضمن حركة العمران..

إن هذه الحركة تكون كذلك فيما لو كانت مواجهة حامية حافظة كحركة العمران من خراب يطولها مثل الفتنة، أو الإفساد في الأرض، أو الطغيان، أو من ظلم مؤذن بخرابها، وتشوهات كامنة تعتمل في باطنها.. إنها مانعة من عناصر "الفتنة الحضارية" وتراكمها، "حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ".. "القيومية" من تمام التوحيد الحافظ من عناصر الفتنة الحضارية، أما تنازع سلطة الدين والقوة في عالم البشر إنما يحاول الانتقاص من أن يكون "الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" وفق علاقات- قوة، تحفظ للقوة قيمتها، وللقيمة قوتها وحجيتها.

إن مجابهة عناصر الطغيان الحضاري، كل صوره وإفرازاته في الاستكبار والاستغناء والاستئثار والاستخفاف، هو محاولة لرد معادلة التوازن الحضاري عن طريق التدافع الحافظ، لأن حال الطغيان ليس إلا استعمالا تكراريا ومتراكما لعناصر القوة من غير سند، بينما القيمة تحفظ الأصول في الكتاب والمعيار في "الميزان" والبينات الحضارية الكبرى، التي كانت من مهمات الرسل الذين جاءوا بكل ما يعمر الأرض ويضمن استمرار عمارتها.

معادلة العمران في مواجهة معادلة الطغيان.. ولا شك أن ترك معادلة الطغيان ضمن مجالات العلاقات الدولية والتعامل الدولي والعلاقات الخارجية تفعل فعلها، وتراكم عملها من غير مجابهة يردي إلى نقيض العمران، "لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ"، "لفَسَدَتِ الأَرْضُ".. ويحرك جملة الحركة في هذه المجالات المتنوعة للحركة الحضارية في طريق سلبي؛ يشوه أصول هذه العلاقات وفروعها، بحيث يكمن الظلم في أشكالها وأساليبها، ويحرك عناصر القوة الطاغية في الحركة والعلاقات، ويدجن أسس المصالح الاستئثارية وفق علاقات قوة وتبعية، بما ينتج جملة من مظاهر الاستخفاف في العلاقات السياسية الدولية، إنها تنتج نفس عناصر المعادلة الفرعونية في التعامل الدولي من علاقات القوة والاستكبار.

الرؤية العقدية تجعل من الاختلاف "سنة" ومن التعدد "حقيقة" ومن التعارف والتعايش "ضرورة" ومن التدافع "عملية". والتدافع كعملية حضارية ممتدة ومستمرة تنتج جملة من الأفعال الحضارية هي في حقيقتها عملية جزئية، تشكل فروعا لعملية التدافع إلا أنها بدورها تعبير عن سنن وأشكال من التعامل في نفس الوقت.

واختلاف الأحوال الحضارية لا يمنع من معنى السنة الحاكم لها على اختلافها وتنوعها بل وتناقضها.. الحرب والقتال شكل من أشكال التدافع يُحكم جملة بالسنن الخاصة به، والتعاون والتعايش والتفاعل والعلائق التي يقتضيها حال السلم شكل من أشكال التدافع، وفي الحالين تتداخل العلاقات وتتفاعل ضمن نماذج متنوعة يستغرقها الوصف القائل "بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وفق أصول وضوابط شرعية مرعبة من جانب، وأحوال ونوازل وأحداث معتبرة من جانب آخر، والاعتبار المستثمر لعناصر القدرات والإمكانات المتاحة بما يكون عناصر القوة وفق منطق العصر وتحصيل أصول القوة فيه من جانب ثالث.

التدافع والمدافعة والدفع والدافعية والدفاع كلها من جذر لغوي يشير إلى العمليات السننية والحضارية؛ قال تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: 251)، وقال تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: 40).

المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريقين؛ فريق أهل الحق وتكريسه، وفريق أهل الباطل وفساده وإفساده

 تكشف هاتان الآيتان عن سنة إلهية عظيمة وفريضة واجبة على المسلمين وهي سنة التدافع، أي دفع الباطل بالحق المفعم بالإيمان، والشر بالخير، والفساد بالصلاح، والمنكر بالمعروف، وتظهر عظمة هذه السنّة من اندراج فريضتين عظيمتين تحت عنوانها، وهما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافا لها وملحقا بها أفعال حضارية وإيمانية كالدعوة إلى الخير والتعاون على البر والتقوى، والنصح القائم على الحق والإرشاد إلى طريق الهدى.. كل تلك المنظومة الحضارية التدافعية تتوسل كل ما يتعلق بالتدبير البصير واستلهام موجبات التغيير "بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". ومن المرئيات التدبرية لآيتي الدفع والتدافع في القرآن الكريم أن تربط بين الدفع وسنن التدافع والجهاد؛ إذ تشكل هذه السنة مدخلا للسعي الجهادي وفاعليته.

جعل الله هذه السنة الإلهية من مننه تعالى وأفضاله على العالمين في الآية الأولى، رغم أن هذا التدافع يقتضي حصول تضحيات بالأرواح والأموال ومفارقة الأهل والأوطان وبذل الجهود الكبيرة؛ لأنها حرب مستمرة ضارية. وتفسير ذلك بوجوه، ونذكر هنا وجها ذكرت الآية حاصله أنه لولا هذا الدفع لامتلأت الأرض بالشر والفساد والظلم والكفر، ولم تستقم فيها حياة إنسانية كريمة، ولأزيلت كل مظاهر الخير والصلاح التي أشير إليها في الآية الثانية بأسماء دور العبادة والذكر في الديانات التوحيدية.

هذه المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريقين؛ فريق أهل الحق وتكريسه، وفريق أهل الباطل وفساده وإفساده. ومن عظيم ما يستنبط من سياقات الآيتين أن الغرض من التدافع ومنه الجهاد (ذروة سنام الإسلام)، بل العمل الإسلامي عموما، هو تثبيت كلمة التوحيد وحفظ شعائره ومشاعره، وإخراج الناس من عبادة العبيد وتحريرهم ليكونوا عبادا لله تبارك وتعالى.

ولم يُشرّع الجهاد والقتال وإقامة سنة التدافع بأي نحو كان؛ طلبا لدنيا أو مال أو توسيع سلطة ونفوذ أو أي مغانم أخرى غير رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته، خلافا لأهداف هؤلاء الذين أُشربوا تلك الأهداف الدنيوية. وهذا يجيب عن كافة الإشكالات والشبهات التي يثيرها البعض من محترفي التشكيك والتشويه؛ عن تشريع الجهاد في شريعة الإسلام.

الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل على ما يؤكد المنع وقاية؛ وما يعرف بالرفع؛ وما يعني منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلا، بل إن العمل عل النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع استراتيجيتنا وخططنا له

إنّ الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل على ما يؤكد المنع وقاية؛ وما يعرف بالرفع؛ وما يعني منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلا، بل إن العمل عل النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع استراتيجيتنا وخططنا له؛ من تهيئة أسباب الصلاح والوسط والسياق المساعد والداعم لانتشاره وإقناع الناس به، وهو مقدَّم على انتظار وقوع المنكر ثم التفكير في كيفية إزالته ومعالجته.

إن هذا التدافع الحضاري كسنّة إلهية كبرى وارتباطها بالجهاد، والأمر بالمعروف؛ إنما يشكل حركة المقاومة الفاعلة وأصولها الدافعة الرافعة للأمة ونهوضها؛ المقاومة بفعل تلك السنة التدافعية القائمة والماضية الهادفة لنصرة الإيمان ومقاومة العدوان والطغيان، وإقامة كل معاني البناء الإيجابي والعمران.

إن حركة المقاومة في فلسطين وفي أرض غزة العزة حملت هذه المهمة التدافعية العمرانية.. دلت سنن الله -تعالى- على هذا التدافع في الأرض، كما قال سبحانه: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251.( وقال ربنا: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج: 39-40). بيّن الله -تعالى- الحكمة من هذه السنة، وهي: حفظ الدين والحق من الانهيار، وحفظ الدنيا من الباطل والفساد، فقال: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ" (البقرة: 251).

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
علي
السبت، 10-02-2024 09:10 ص
نحن لا نستسلم نقاوم حتى النصر أو الشهادة.