كتاب عربي 21

مفهوم التغيير كأحد مرتكزات المشروع الحضاري القادم .. مشاتل التغيير (2)

سيف الدين عبد الفتاح
الأناضول
الأناضول
قبل أن نتحدث عن مشتل التغيير وأبرز أشكاله وأنواعه وتجلياته في الماضي فيما عُرف بثورات الربيع العربي وما نفضله من تعبير عن تلك الحقبة بالثورات العربية؛ من المهم أن ندرس مناهج التغيير ونفحصها فحصا متأنيا وبحثا حصيفا ودرسا رصينا من خلال عمليات أخرى تتعلق بمناهج التفكير والتدبير والتسيير، بما يحفظ لعمليات التغيير والتجديد قدراتها وتقدير إمكاناتها حتى تنتقل الى البحث في أشكال ومسالك الفاعلية والتأثير؛ حيث أن منهجية التغيير عمليات مركبة ليست مفردة منبتة الصلة، ولكنها ترتبط بمنظومات أخرى تضمن لها الإسناد والدعم وتحرك مساراتها، ضمن تراكم يضمن الجدية والنجاعة والفاعلية لهذه المنهجية التي تقوم على ثلاث مستويات: استراتيجية التغيير، شبكية التغيير (العلاقات بين الفاعلين والواقع والمرشحين للقيام بعملية التغيير)، ومعوقات ومسهلات التغيير، ويتوج كل ذلك ببناء استراتيجية مصاحبة تتعلق بخطاب التغيير.

وضمن الحديث عن استراتيجيات التغيير ومنهجيته ربما نحتاج للاهتمام بمعالجة موضوعات مهمة، منها على سبيل المثال ما يشير إلى الضرورات التي تتعلق بفهم الواقع والقدرة على تحريك عملية التغيير والخروج بها من حال الكمون إلى حال الفعل، من حال الممكن والإمكان الى حالة التأمين والتمكين، كما نحتاج حينما نتحدث عن استراتيجية التغيير والفعل التغييري أن نهتم بعدة مستويات على قمتها تقع مسألة الوعي، ثم البحث على مستوى الهياكل والأبنية والمؤسسات، ثم تبصر العلاقات والسياسات، وترتيب الغايات والأولويات، وذلك حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة التي مرت بها الثورات العربية، وأن نستفيد من الخبرات والتجارب، خاصة وأن المضادين للثورة تمكنوا -في الخبرات السابقة- من وضع المتاريس في طريق عمليات التغيير الحقيقية، ومن ثم يجب أن يكون في المشتل مساحة لتجنب ذلك، وأن تتم تنمية حالة من الفطنة بشأن وسائل الالتفاف ومحاصرة كل أشكال ومسالك الثورة الحقيقية.

إرادة الاستثمار للحظات الزخم الثوري في البلدان العربية وخاصة بعد طوفان الأقصى، وانتصار الإرادة الفلسطينية على الكيان الصهيوني المدعوم من معظم دول العالم وخاصة الدول الغربية، وكذلك الثورة السورية وانتصارها المدوي في معركة الطغيان رغم وجود القوى الدولية والإقليمية التي كانت تناصر وتدعم وتساند النظام البائد؛ صارت أمرا جوهريا حتى بعد أن نجح المضادون للثورات في تشويه ومحاصرة تلك الثورات من كل طريق وبكل الأساليب

إن إرادة الاستثمار للحظات الزخم الثوري في البلدان العربية وخاصة بعد طوفان الأقصى، وانتصار الإرادة الفلسطينية على الكيان الصهيوني المدعوم من معظم دول العالم وخاصة الدول الغربية، وكذلك الثورة السورية وانتصارها المدوي في معركة الطغيان رغم وجود القوى الدولية والإقليمية التي كانت تناصر وتدعم وتساند النظام البائد؛ صارت أمرا جوهريا حتى بعد أن نجح المضادون للثورات في تشويه ومحاصرة تلك الثورات من كل طريق وبكل الأساليب.

استثمار هذا الزخم يؤكد سنة ماضية؛ أن التغيير قادم لا محالة، إما أن تكون فاعلا فيه أو مجرد موضوع للتغيير تبدو في حالة كسل في التفكير وهزال في العمل والتأثير، ومن ثم فإن السبيل هو طوفان الوعي الذي يمثل التشكيلات الوسيطة التي ستبني هذا الطوفان الجارف الذي سيقود عمليات التغيير، خاصة وأن العالم في حالة تغير عميق وشامل. وهناك حالة من التدافع الحاد المركب المكثف وانعكاساته غير المنكورة على كافة المستويات والساحات والمساحات والمجالات.

وتأسيسا على ذلك ضرورة ولزوما، من المهم أن نشير الى فكرة جوهرية تتعلق بما يمكن تسميته "جغرافيا التغيير" والتي تؤصل معنى اعتبار جهات الاختلاف الأربع الإنسانَ في المكان والزمان وما يطرأ عليه من أحدات ومتغيرات وتحولات، وهو ما يؤكد معنى قاعدة مالك بن نبي التي تشير إلى مسألتي الصحة والصلاحية؛ تأكيدا منا أن مشاتل التغيير تتنوع في بيئاتها وسياقاتها، كل تلك الأمور لا بد أن تؤخذ في الحسبان ضمن عمليات التغيير ضمن قواعد الفاعلية والتأثير. التغيير إذن عملية مركبة تحرك كل أصول ومكامن التغيير وآلياته وتراتب مستوياته.

من المهم ونحن نحدد مسارات العمل التي يمكن أن نفكر فيها وبرامج التغيير الممكنة أن نستبطن بمعرفة بصيرة وقديرة هذا التدافع بمستوياته وتجلياته المختلفة، وبالتالي فإن النظر بصفة مستمرة في مسارات التغيير وحالة التدافع في حركته العامة خاصة عند تحويلها لبرامج عمل؛ هو من ضرورة الانتباه والتنبه إلى سلوك الأطراف الأخرى وخياراتهم وإمكانياتهم التي يمكن أن توجه لإجهاض المشروع ومحاربته، مثلما حدث في الثورات التي طالت بلدانا عربية، وأخافت دولا عدة، فلاذت بعضها بسعيٍ حثيث في العمل على مستويات إقليمية ودولية بتخريب تلك الثورات ومحاولة الإجهاز عليها بطرق مختلفة؛ أهمها ترسيخ حالة من الشعور في الرأي العام "ليتنا نعود إلى ما قبل الثورات".

وعليه، تأتي أهمية طوفان الوعي الذي نؤكد عليه، فالتصورات بخصوص التغيير الهادف إلى عمليات تغيير جذري مقترنة بالوعي وحفز التغيير بوجه عام؛ هي ما تحتاجه أمتنا العربية، ودول الطوفان أو دول الثورات، ولذلك علينا أن نستثمر في مشتل التغيير ببناء هيكل لعمليات التغيير واستراتيجياته، بالتعرف على خريطة الإمكانات، وما نستطيع أن نفعّله من خريطة الأهداف التي سيتم الوقوف عليها باعتبارها أولويات في العمل والنشاط والحركة، بما في ذلك الاتفاق على تحديد مقاييس لعملية التغيير، سواء في جانبها السلبي أو الإيجابي.

هذا الأمر يتطلب منا العمل بمنهجية محددة لها أطر ومستويات وفواعل ومجالات وسياقات وسنن وهو ما تتضمنه الآية الكريمة "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11)، وقد أكد سبحانه وتعالى على هذا المعنى في سورة الأنفال بقوله: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال: 53). ولذلك نرى أن القرآن الكريم يتحدث عن أربعة أنواع من التغيير؛ التغيير الإلهي، وتغيير النفس الفردي والجماعي، وتغيير القوم. أي أن مسألة التغيير متسعة وذات دلالات عميقة ومتصلة، ترتكز على ضرورة إعادة النظر في معظم المقولات السائدة ومراجعتها على أساس من نسق قياسي لمفهوم إسلامي أساسي مثل مفهوم التغيير، وهو ما يحقق الضبط في النظر، وعدم الارتكان إلى مقولات الاستثناء، أو أن هيمنة الاستبداد وسيطرة المستبدين لعدم لياقة مجتمعاتنا للتغيير، الأمر الذي يدفعنا إلى التأكيد على أن التغيير عملية يحتاج إلى رعاية وعناية.

وبناء عليه، فإن قولنا بأنه مشتل هو أمر مقصود في ذاته وبنيانه وكيانه، خاصة وأن عملية ضبط النظر هذه تحتاج لاتخاذ مجموعة من المواقف الفكرية الواضحة التي تربط بين الحركة الحاضرة والمستقبلية.

إن استحضار مفهوم الحضاري هو من واجبات الوقت وليس رفاهية أو زينة مفاهيمية، وهو إذ يتعلق بالاستخلاف والتغيير فإنه يطمح أن يضبط عملية هداية الإنسان، وأن ينظمها منهجا واتجاها وغاية، وأن يحافظ بذلك على تفرده في الجماعة المهتدية، وبالتالي فهو يطمح أن يجعل أسس تربية الإنسان وأهدافها متفقة مع تكريمه واستخلافه في الأرض

هذه العمليات والمواقف حتى تحقق المراد منها تحتاج إلى تحديد وبناء سياقها المناسب والملائم الذي يجعل دول الثورات العربية مرتبطة بالطوفان، وتستلهم الخبرات والتجارب الناجحة وتتجنب الفشل والإفشال المتعمد. ومن هنا، فإن استحضار مفهوم الحضاري هو من واجبات الوقت وليس رفاهية أو زينة مفاهيمية، وهو إذ يتعلق بالاستخلاف والتغيير فإنه يطمح أن يضبط عملية هداية الإنسان، وأن ينظمها منهجا واتجاها وغاية، وأن يحافظ بذلك على تفرده في الجماعة المهتدية، وبالتالي فهو يطمح أن يجعل أسس تربية الإنسان وأهدافها متفقة مع تكريمه واستخلافه في الأرض.

ويتأسس المنظور الحضاري على النظرية الإسلامية من الناحية المنهاجية، ويعتمد طريقتها ويعتبر ضوابطها في معالجة الواقع وفقهه أهم عناصره، كمقدمة أساسية لتنزيل الحكم الشرعي بعد استنباطه من النصوص الدالة عليه، بما يحقق التكامل مع المنظور الأصولي القائم على منهاجية الاجتهاد، وما يرتبط بذلك من تنزيل الأحكام على الوقائع تنزيلا إسلاميا متكاملا يكون مطابقا لمفهوم الهداية؛ حيث ينبغي أن يؤدي إلى مستوى الإحسان في الأداء، ذلك المستوى الذي تبلغ به الشخصية الإنسانية مرضاة الله.

إلا أن منهاجية الاجتهاد لا تهمل أن الفرد والجماعة عرضة الانحراف في حاجة دائمة لبذل الجهد الواعي للمحافظة على الاتجاه الصحيح والعودة إليه لدى أي انحراف، وإذا بلغ الانحراف مداه فإن انهيارا شاملا سيتهدد الجماعة في كيانها الفكري والسياسي، ثم في وجودها وكيانها الاجتماعي الحضاري وفي مشاعرها وشعائرها، وليس لأية جماعة تزيد عن كونها جماعة إنسانية مسئولة ومستخلفة، فإذا التزمت بالهدى التزاما واعيا شاملا فإنها ستواجه متطلبات المسؤولية وتتقدم في معارج الهدى لا معارج التقدم التكنولوجي، أو المعرفي والاقتصادي فحسب، وأي تراجع عن هذا الالتزام يهدد بإزالتها مهما كان مستوى تقدمها المادي الشكلي.

التغيير كفعل حضاري واستراتيجي قد يجعلنا نؤصل المفهوم المرجعي باعتباره يؤكد على أهم معانيه ومغازيه الكبرى؛ التغيير بما يمثل من سنة ماضية؛ وعملية كلية جامعة؛ واستشراف لحالة مستقبلية؛ ووعي راشد وسعي سديد يتعلق بمشاتل التغيير الحضارية في الأمة؛ يتطلب منا هذا التأصيل في مقال آت بحول الله.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)