سواء
أترجمنا الكلمة الفرنسية "Médiocratie" بكلمة "التفاهة" (كما هو شائع) أم بكلمة
"الرداءة" وغيرها، فإن الأطروحة التي جاءت في كتاب الفيلسوف الكندي
"آلان دونو" (2015) قد وفّرت مرجعية نظرية صلبة لنقد الغرب في تاريخه وراهنه، ولكنّ
منطق المجهود الذهني الأدنى، دفع أغلب القرّاء إلى إسقاط ذلك النموذج التفسيري للواقع
ما بعد الحداثي على بيئة لم تعرف الحداثة ذاتها. كما كان لـ"نظام
التفاهة" حضور كبير في السجالات العمومية الدائرة في وسائل التواصل التقليدية
والعنكبوتية، ولكنّ دوره كاد ينحصر في تغذية نوازع الاستعلاء عند الكثير من
"المثقفين العرب"، أو حتى بعض أشباه المثقفين من "المؤدلجين"،
أولئك الذين رأوا في "التفاهة" أو "الرداءة" شأنا جمعيا لا
علاقة له بـ"محصول عقولهم" ولا بأدوارهم الصريحة، أو غير الواعية في
شرعنة منظومات الاستعمار الداخلي، وبنى التخلف والتبعية والاستبداد المهيمنة على
المجال العربي-الإسلامي.
لعل من أبرز بركات "طوفان
الأقصى" أنه قد أظهر حقيقتين مهمتين لعموم العرب والمسلمين، وهما
حقيقتان مترابطتان: أولا خضوع المعرفة الغربية لسقف "التصهين"، أو على
الأقل قابلية "الثقافة العالمة" فرديا ومؤسساتيا لخدمة المشروع
الصهيو-صليبي، وتوظيف منتجات العقل –حتى في صوره الأكثر نقدية كما هو الحال مع يورغن
هابرماس- لتبرير ذلك المشروع. ثانيا؛ عجز "المثقف الحداثي العربي" بمختلف
مرجعياته الأيديولوجية عن تحشيد الرأي العام ضد المواقف الرسمية، بل ميل أغلب
المثقفين إلى التماهي مع تلك المواقف وتبريرها؛ إما لعجزهم عن "تحييد"
الخلاف الأيديولوجي مع "المقاومة الإسلامية" والدفع به إلى خلفية
المشهد، أو خوفا على مصالحهم المادية والرمزية المرتبطة بأنظمة الحكم "المطبّعة"
أو السائرة في طريق التطبيع (بما فيها بعض الدول التي تدعي مناهضة المشروع
الصهيوني، ولكن منظومات الاستعمار الداخلي فيها، لا يمكن أن تكون-رغم كل مزايداتها
الخطابية-، إلا حليفا موضوعيا للمشروع الصهيوني في الإقليم).
من أبرز بركات "طوفان الأقصى" أنه قد أظهر حقيقتين مهمتين لعموم العرب والمسلمين، وهما حقيقتان مترابطتان: أولا خضوع المعرفة الغربية لسقف "التصهين"، أو على الأقل قابلية "الثقافة العالمة" فرديا ومؤسساتيا لخدمة المشروع الصهيو-صليبي، وتوظيف منتجات العقل –حتى في صوره الأكثر نقدية كما هو الحال مع يورغن هابرماس- لتبرير ذلك المشروع. ثانيا؛ عجز "المثقف الحداثي العربي" بمختلف مرجعياته الأيديولوجية عن تحشيد الرأي العام ضد المواقف الرسمية، بل ميل أغلب المثقفين إلى التماهي مع تلك المواقف وتبريرها.
عندما عرّف آلان دونو نظام التفاهة
بأنه ذلك "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على
جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضا عن العمل الجاد الملتزم"،
فإنه كان يؤسس حكمه على استقراء التاريخ الغربي تحديدا، وهو تاريخ لا يمكن التسليم
بكَونيته سواء في تحولاته المفصلية أو في راهنيته ما بعد الحداثية.
ونحن لا نذكّر بهذه الحقائق لأننا
نتبنى قراءة ديكولونيالية، أي قراءة ما بعد استعمارية أو قراءة تريد استعادة صوت
"الهامش" فقط، بل نحن نفعل ذلك لأننا نؤمن بأن أي تبيئة للمصطلحات
الغربية في الفضاء العربي الإسلامي دون مجهود نقدي، هي بالضرورة تبيئة استعمارية؛
حتى عندما يكون المتلفظ بها أو المروج لها من أدعياء مقاومة الاستعمار ومن رموز
مشاريع التحرير الوطني.
حتى لو سلّمنا جدلا بأن "نظام
التفاهة" هو نظام مُعولم، فإن أساس العَولمة هو العلاقات اللامتكافئة بين
المركز وهوامشه. ومن باب المفارقة أن اللاتكافؤ قد ازداد رسوخا بعد مرحلة
الاستعمار المباشر، المتزامنة -بالمعنى العام- مع دخول الإمبريالية في مرحلة "التصهين"،
بعد قيام دولة الكيان وهيمنة اليهود على الغرب اقتصاديا وإعلاميا وفكريا. وهو ما
دفعنا في أكثر من موضع سابق إلى "تحيين" أطروحة لينين (الإمبريالية أعلى
مراحل الرأسمالية)، واعتبار
الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية.
ولا شكّ في أن الحرب الكونية على
غزة قد أكدت هذه الحقيقة، وجعلت الفصل بين الغرب "العلماني" وبين عمقه
الصهيو-صليبي أمرا مجانبا للصواب، كما أن هذه الحرب قد أكدت أيضا أن "التصهين"
قد أصبح مكوّنا بنيويا من مكونات العقل السياسي العربي-الإسلامي الرسمي (وشبه
الرسمي)، بعد أن كان محصورا في الجملتين اليهودية والمسيحية الغربية، وما يرتبط
بهما من أطروحات في مرحلة الاستعمار غير المباشر (أي الاستعمار الاقتصادي
والثقافي).
لا شك عندنا في أن أي قارئ عقلاني
لكتاب "نظام التفاهة" قد سأل نفسه بعض الأسئلة التي قد يكون منها
الأسئلة التالية، وهي أسئلة جعلتها حرب الإبادة على غزة وبؤس الرد العربي الرسمي
والشعبي أكثر إلحاحا: إذا كان "دونو" يصف النظام الغربي المهيمن على
العالم بـ"نظام التفاهة"، فهل يجوز لنا أن نصف هوامش ذلك النظام
وملحقاته الوظيفية بـ"التفاهة"؟ أم إن علينا اجتراح مفهوم مطابق لواقع
العمالة والاستلاب الذي تعيشه تلك "الكيانات" بما فيها الكيانات
العربية-الإسلامية؟ وإذا ما سلّمنا جدلا بصلاحية "نظام التفاهة" لوصف
الواقع العربي-الإسلامي، فهل للتافه العربي-الإسلامي الدور نفسه الذي لنظيره
"التافه" الغربي؟ وهل هو حقا نظيره، أم هو -أي التافه الغربي- سيده
وقدوته ومرجع المعنى النهائي عنده؟ هل إن "نظام التفاهة
العربي-الإسلامي" هو نتيجة صيرورة تاريخية طبيعية، أم إنه نتيجة تدخلات
"خارجية" تتعامد وظيفيا مع "قابلية الاستعمار" بمختلف أشكاله
المباشرة وغير المباشرة؟
هذه الحرب قد أكدت أيضا أن "التصهين" قد أصبح مكوّنا بنيويا من مكونات العقل السياسي العربي-الإسلامي الرسمي (وشبه الرسمي)، بعد أن كان محصورا في الجملتين اليهودية والمسيحية الغربية، وما يرتبط بهما من أطروحات في مرحلة الاستعمار غير المباشر (أي الاستعمار الاقتصادي والثقافي).
ختاما، فإن من "التفاهة"
أن نُسوّيَ في النظام العالمي المتصهين بين أصناف "التافهين"، فالغرب
الذي أنتج "نظام التفاهة" وعمل على عولمتها ليس هو الهامش العربي
الإسلامي الذي يعيش نظام تفاهة من الدرجة الثانية. فرغم هيمنة
"التافهين" على المجال الغربي، بما ذلك في مجالي الحكم والعلم
(الجامعات)، فإنه لا يمكن المقارنة بين التوافه عندهم وتوافهنا. فتوافههم يعملون
للحساب الخاص (سواء أكانت خدماتهم للدولة أم للطائفة أم للمؤسسة)، أما توافهنا
فإنهم يعملون بالضرورة لحساب الغير، أو هم مجرد وكلاء محليين لمركز القرار
والتوجيه في الغرب. ولكننا نؤمن بوجود رابط خفي بين الجميع، ألا وهو خدمة المشروع
الصهيوني الذي تحضر فيه فلسطين، باعتبارها "مركزا" أو نقطة ارتكاز،
ولكنها لا تختزل المشروع كله.
إن المشروع الصهيوني (الذي أصبح هو
نفسه مشروع الإمبريالية في مرحلتها الصهيونية)، لا يمكن أن ينجح إلا بعولمة
"عبادة العجل" عند الغوييم أو الأغيار من غير اليهود، أي عولمة أنماط اقتصادية
وثقافية ومجتمعية أساسها الغرائز والشهوات وتغذية "الإنية المركزية" دون
أي بعد متعال، ولا علاقة لها بـ"القيم الدينية" أو الأخلاقية، مع تسفيه
كل الأنظمة العقائدية والتحريض على أصحابها، بدعوى مقاومة الإرهاب أو الدفاع عن
حقوق الإنسان، مع استثناء النظام العقدي اليهودي المؤسس لدولة الكيان الغاصب.
ولا شك عندنا في أن "البقرة
الحمراء" التي ينوي اليهود ذبحها تمهيدا لتدمير الأقصى وبناء المعبد وتغيير
فتوى تحريم دخوله، تختزل المشروع الإمبريالي كله في لحظته المتصهينة. فهذا المشروع
يحتاج إلى "عبدة العجل" (وهم أساسا نخب التطبيع السياسي والثقافي
والديني القائم على "التسامح اللامتكافئ"؛ باعتباره شكلا من أشكال
التبادل اللامتكافئ)، حتى يستطيع تمرير مشروعه التوراتي، كما يحتاج المشروع
الصهيوني إلى علمنة الوعي العربي-الإسلامي بصورة مشوّهة ومعادية للهوية الجماعية، أو إلى "تطييفه" (ربطه بالطائفية وبرهانات الدولة-الأمة أو الطائفة-الأمّة)،
حتى يتمكّن من تفكيك أية مقاومة "إسلامية" مشروعة ووصمها بالإرهاب
والتطرف والرجعية. وهي حقائق جاءت "طوفان الأقصى" لتدفع بها إلى الضوء،
بعد أن عمل "أدعياء التنوير" وسدنة "الفرقة الناجية" على
تهميشها؛ خدمة للمشروع الصهيوني ووكلائه في منظومات الاستعمار الداخلي التي تسمى
مجازا "دولا وطنية".
twitter.com/adel_arabi21