ستظل ذاكرة السوريين تجاه مسيرة وزير الخارجية
الأمريكي السابق هنري
كيسنجر الذي رحل عن عالمنا بعد حياة امتدت لمائة عام وبضعه
أشهر، مرتبطة بكلمات مفتاحية، هي سياسة الخطوة خطوة، ولقاؤه مع المجرم المؤسس حافظ
الأسد لساعات طويلة، والحركات الدرامية التي كان يحرص عليها الأسد خلال لقائه بكيسنجر؛
من إبراز صورة صلاح الدين الأيوبي خلفه وكأنه خليفته، ومعها سيتذكر السوريون دوره
في تثبيت حكم آل الأسد في
سوريا، بل وتمدد دوره إلى لبنان مع طرد المقاومة
الفلسطينية وتمكين الحلف الأقلوي الشيعي فيه.
كان الأسد يحرص على لقاء كيسنجر بمفرده، وحتى المترجم
بينهما كان من الطرف الأمريكي، ليضمن بذلك عدم تسرّب أي شيء مما سيتم تداوله، وبعد
اللقاء الأساسي معه، يقوم بدعوة بعض العسكريين من جماعته مفلترا اللقاء ليطلعهم
بحضوره على بعض جوانب اللقاء الذي يريدهم أن يعرفوها فقط، ثم يقوم بفلترة ثانية
حين كان يدعو بعض السياسيين من أمثال عبد الحليم خدام ليطلعهم على ما يريد لهم أن
يطلعوا عليه أيضا، بعيدا كل البعد عن جوهر اللقاءات وعمقها.
كان الأسد يحرص على لقاء كيسنجر بمفرده، وحتى المترجم بينهما كان من الطرف الأمريكي، ليضمن بذلك عدم تسرّب أي شيء مما سيتم تداوله، وبعد اللقاء الأساسي معه، يقوم بدعوة بعض العسكريين من جماعته مفلترا اللقاء ليطلعهم بحضوره على بعض جوانب اللقاء الذي يريدهم أن يعرفوها فقط، ثم يقوم بفلترة ثانية حين كان يدعو بعض السياسيين من أمثال عبد الحليم خدام.
بعد نجاحه في فتح كوّة بالجدار المصمت بين الأمريكيين
والصينيين، فيما أطلق عليه لاحقا ديبلوماسية البينغ
بونغ عبر البوابة الباكستانية، التفت كيسنجر إلى جبهة جديدة، هي الجبهة العربية
في أعقاب حرب أكتوبر 1973، التي وجد فيها فرصة لتحريك السلام بين الكيان الصهيوني
والأنظمة العربية، فكانت محطته في سوريا ولقاءاته مع الأسد من أجل ضمان فصل سوريا
عن مصر، فتم فصل القوات بينها وبين الكيان الصهيوني، وأبعد مصر وسوريا بعضهما عن بعض، فكان الثمن بقاء حكم آل الأسد ودفاعه المستميت عنه، وتجلى ذلك بوضوح حين توفي
حافظ الأسد؛ فقد هرعت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لدعم بشار الأسد.
وقد حصل كيسنجر خلال لقاءاته مع الأسد الأب بعد حرب
1973 على تأمين جبهة الصهاينة، وعدم إطلاق طلقة واحدة من الجبهة السورية لخمسين
عاما مقبلة، وقبض الأسد ثمن ذلك أيضا ضوءا أخضر أمريكيا وإسرائيليا، كما تحدث عن
ذلك قادة أمريكيون وصهاينة عاصروا تلك المرحلة، فكان دخول القوات السورية إلى
لبنان عام 1976 وضرب المقاومة الفلسطينية، وارتكابها مجازر بحق الفلسطينيين الذين
تكفل الأسد بضربهم نيابة عن الصهاينة، وهو ما دفع ياسر عرفات إلى وصفه بشارون
العرب.
ويشير كيسنجر في مذكراته إلى أن حافظ الأسد اكتفى
بالمعارضة الكلامية الشكلية لاتفاقية كامب ديفيد التي وقعها أنور السادات، بعد أن
قبض ثمن ذلك بدخوله (الأسد) إلى لبنان، وهي الخاصرة التي لطالما أقلقته تاريخيا؛ لكونها منبع كل التمردات والانقلابات السورية بعد الاستقلال. وحقق كيسنجر بذلك
هدفه الأهم، وهو فصل المسارات المصرية والسورية والاستفراد بكل واحد منهما على حدة.
يبدو أن ما اتهم به كيسنجر الأسدَ، كان ذاته أسيرا له، فقد ظل أسير بيئته الألمانية وتفكيره القائم على نظرية بسمارك من الاعتماد على القوة الباطشة، كما ظل الأسد أسير بيئته الطائفية الأقلوية إن كان باعتماده عليها، أو بتوسعة مشروعه الأقلوي إلى لبنان والعراق وما بعدهما.
في مقابلة يستذكرها كاتب في مجلة الفورين بوليسي معه
يقول: بعد وفاة الدكتاتور السوري حافظ الأسد، كان كيسنجر يميل إلى التغاضي عن
التاريخ الدموي للديكتاتور السوري، لكنه قام بتقييم نقاط قوته وضعفه بصراحة ووضوح.
فقال حينها: "كان نجاحه هو البقاء في منصبه لمدة 30 عاما، وهو ما لم يكن
إنجازا بسيطا". لقد كان رجل البقاء والزيادات الصغيرة، لم يكن رجلا ذا رحلات
كبيرة. ما كان ينقصه هو تجاوز البيئة التي نشأ فيها.
ويبدو أن ما اتهم به كيسنجر الأسدَ، كان ذاته أسيرا له،
فقد ظل أسير بيئته الألمانية وتفكيره القائم على نظرية بسمارك من الاعتماد على
القوة الباطشة، كما ظل الأسد أسير بيئته الطائفية الأقلوية إن كان باعتماده عليها،
أو بتوسعة مشروعه الأقلوي إلى لبنان والعراق وما بعدهما.
وينقل الكاتب الفرنسي ميشال سورا صاحب كتاب: "الدولة
المتوحشة" عن الأسد قوله، بعد مجزرة حماة 1982، التي راح ضحيتها 40 ألف مدني،
بأن الأسد سعى إلى حلف أقلوي ممتد من دمشق إلى بيروت فبغداد وطهران وإسلام أباد
وكابول، وهو ما تحقق وتأكد خلال الثورة السورية، حين رأينا هذه المليشيات الطائفية
تهرع من الدول التي ذكرها ميشال سورا لدعم ابنه بشار الأسد في مواجهة الثورة
الشعبية. ذلك هو الإرث الكيسنجري والأسدي الذي نعيشه حتى اليوم ودفعنا ثمنه غاليا،
وسندفع ثمنه لفترة ربما ليست قصيرة.