لا يتعلق
القمع بطبيعة النظام السياسي القائم فقط، ولا بسلوك الفاعلين السياسيين وحسب، بل يتعلق، بالدرجة الأساس، بطبيعة المدونة القانونية التي تستخدم لممارسة هذا القمع، وبطبيعة النظام القضائي غير المهني وغير المستقل، وما يرتبط بكل ذلك من غياب معيار دقيق لحقوق الإنسان، أو للعدالة بشكل عام.
وبرغم التغيير الذي حصل عام 2003 بتحول النظام من نظام استبدادي إلى نظام يُفترضُ أنه نظام ديمقراطي، ظلت حرية التعبير تشهد تراجعا منهجيا واضحا؛ ففي حين نصّ قانون إدارة الدولة
العراقية للمرحلة الانتقالية لعام 2004 في المادة 13/ أولا، على أن «الحق بحرية التعبير مصان». (أي أن هذا الحق تحميه الدولة نفسها) تراجع الدستور العراقي خطوة عن هذه الحصانة مع المادة 38 التي تقول بكفالة الدولة لـ«حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل» مع تقييدها بقيد فضفاض وقابل للإفراط في التأويل وهو عدم الإخلال «بالنظام العام والآداب». وهذه العبارة هي استنساخ لعبارة وردت في دستور عام 1970 الذي نص في المادة 26 على كفالة الدستور لحرية الرأي والنشر «في حدود القانون». والمفارقة هنا أن «حدود القانون» التي وضعها النظام الشمولي هي نفسها التي تستخدم اليوم لتحديد معيار «النظام العام والآداب».
لذلك سيكون مفهوما في هذا السياق لماذا أعادت الحكومة الانتقالية (من خلال الأمر رقم 3 الصادر في 2004 ) العمل بالمواد القانونية المقيِّدة لحرية التعبير الواردة في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وهي المواد التي علقت سلطة الائتلاف المؤقتة العمل بها بموجب الأمر رقم 7 الصادر في 2003، تحديدا مواد العقوبات المتعلقة بجرائم النشر (المواد 81 ـ 84) والجرائم الواقعة على السلطة العامة والهيئات النظامية والاعتداء على الموظفين وغيرهم من المكلفين بخدمة عامة (المواد 226 ـ 228، 229). ومراجعة هذه المواد تكشف اتساقها مع منظومة قوانين نظام شمولي ينظر إلى الدولة وأجهزتها وموظفيها على أنهم «أوصياء» على المواطنين، دون الاكتراث للتناقض الواضح في اعتماد مواد قانونية شرَّعها نظام شمولي، لتكون معيارا لحدود حرية التعبير في نظام «ديمقراطي».
وتكشف مراجعة مشروعي قانون «حرية التعبير عن الرأي والاجتماع والتظاهر السلمي» و «مكافحة الجرائم الإلكترونية» وهما في طور التشريع، أن ثمة سياسة منهجية لقمع حرية التعبير ومصادرتها بدلا من ضمانها، وأنها تتبنى وجهة النظر الشمولية تجاه هذا الحق. من خلال فقرات قابلة للتأويل، ولم يستشعر كتاب مسودة القانونين، في العراق الديمقراطي، أي حرج في استنساخ مواد عقابية تتعلق بحرية التعبير عن قوانين سنَّها نظامٌ شمولي!
إن حرية التعبير ليست مجرد شعار، بل حق أصيل يجب تحصينه بوصفه عماد
الديمقراطية، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال بنية تشريعية متكاملة تصون هذا الحق، تتسق مع الإعلانات والعهود الدولية التي صادق عليها العراق، وتتسق مع ما قرره الدستور نفسه بعيدا عن أي تأويل مفرط، خاصة مع الاستخدام المنهجي لهذه المواد لإسكات المنتقدين لسلطات الدولة ومؤسساتها المختلفة بطريقة تعسفية. ولا يمكن لأي متابع للشأن العراقي إلا أن يقف عند ما يمكن عدُّه مؤشرات على عدم احترام سلطات الدولة المختلفة لحرية التعبير، لاسيما أنها تزايدت مؤخرا.
في العراق لا تزال الدولة تنظر إلى الحقوق والحريات، على أنها «مكرمة» من الدولة، وتحديدا من القائمين عليها، وهم وحدهم، من يحدد «نوع» هذه المكرمات
وإن عدم إجراء أي مراجعة حقيقية للمدونة القانونية التي وُضعت تحت نظام شمولي قمعي، فضلا عن الإغفال المنهجي لما قررته المادة 2/ أولا/ (ب) و (ج) من الدستور العراقي بأنه «لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية» و «لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور» هو دليل على ما نذهب إليه!
ومن هذه القوانين قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969، والذي يتضمن مجموعة مواد تتناقض مع الديمقراطية وحرية التعبير، وما زال نافذا، بل ويستخدم بتأويل مفرط من أجل مزيد من القمع، إن مراجعة المواد: 81 و 82 و 83 و 84 و 179/ 1 و 182 و 201 و 202 و 210 و 213 و214 و215 و 220 و221 و 222 (علقت سلطة الائتلاف المؤقتة العمل بهذه المواد الثلاث بموجب الأمر رقم 19) و223/الفقرة 2 و 3 و 225 و 226 و 227 و 228 و 229 و 272/5 و 433 و434 و435 تثبت هذا التناقض بين نظام يفترض نفسه ديمقراطيا لكنه يعتمد على مدونة قانونية صاغها نظام شمولي!
تقرر المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي صادق عليه العراق عام 1971 أنه «لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها». وكما هو واضح من هذا التحديد، فإن حرية الوصول إلى المعلومات تعد جزءا من حرية التعبير. والعراق يفتقد، إلى الآن، إلى قانون يضمن الوصول إلى المعلومات.
بمراجعة مسودة القانون المقترح سنجد أنها تعمد إلى تسخيف هذا الحق؛ فالمادة 1/ ثانيا تعرف «حق المعرفة» بأنه «حق المواطن في الحصول على المعلومات التي يبتغيها من الجهات الرسمية وفق القانون، وخاصة المعلومات المتعلقة بأعمالها ومضمون أي قرار أو سياسة تخص الجمهور» وكما هو واضح فإن القانون لا يتعامل مع «الوصول إلى المعلومات» بوصفه حقا غير قابل للتبضيع. فالمادة 3/ أولا تنص على أن «للوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة إنشاء قاعدة بيانات مفتوحة ليتمكن الجمهور من الاطلاع عليها، ولها نشر المعلومات عن سير أعمالها»! فاستخدام اللام الجارة بمعنى على، واستخدام «ولها» يفرغ هذا الحق من محتواه تماما! وأنه في حال عدم التزام الجهة الرسمية بذلك يمكن للمواطن تقديم شكوى لدى المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي لا يعدو أن تكون ممثلية للأحزاب المهيمنة على مجلس النواب، التي «لها أن تطلب من الإدارة المعنية تزويد المواطن بالمعلومات المطلوبة إذا كان طلبه موافقا للقانون» وعلينا أن نقرأ مفردة «القانون» هنا بأنها تعني «مزاج» الجهة الرسمية، ومزاج المفوضية العليا لحقوق الإنسان، لأن القانون يعطيهما حقا مطلقا في حجب المعلومات من دون أي تقييد!
فضلا عن إشكالية المدونة القانونية، هناك مشكلة أخرى تتعلق بتكييف القضاء العراقي لهذه المواد القانونية بطريقة تعسفية، على سبيل المثال فقد ميز القانون المدني العراقي بين الشخصية الطبيعية الممثلة بالإنسان الطبيعي المؤهل قانونيا، والشخصية المعنوية مثل الدولة ومؤسساتها أو الجهات التي يمنحها القانون شخصية معنوية، ولكن القضاء العراقي يماهي بينهما في قضايا حرية التعبير خلافا للقانون، ويستخدم المادة 226 من قانون العقوبات المتعلقة بما يسميها القانون الجرائم الواقعة على السلطة العامة والماسة بالهيئات النظامية بكثافة، لغرض ترسيخ هذه المماهاة غير القانونية وغير المنطقية والمسيسة لمزيد من القمع.
في العراق لا تزال الدولة تنظر إلى الحقوق والحريات، على أنها «مكرمة» من الدولة، وتحديدا من القائمين عليها، وهم وحدهم، من يحدد «نوع» هذه المكرمات، و«حجمها» وهم وحدهم من يمنعها!