قضايا وآراء

الزعيم اللئيم والصعلوك الكريم (5)

أحمد عبد العزيز
لم يكن المستشار حسن الهضيبي متشجعا للمضي في الاتفاق مع عبد الناصر
لم يكن المستشار حسن الهضيبي متشجعا للمضي في الاتفاق مع عبد الناصر
سافر عدد من أعضاء فريق الإخوان المسلمين إلى الإسكندرية؛ للقاء المرشد العام المستشار حسن الهضيبي، وإحاطته بما اتفق عليه "الفريق" مع جمال عبد الناصر، ومن ثم الحصول على موافقته للمضي قُدما في تنفيذ "الانقلاب" على الملك.. وفي فجر يوم 21 تموز/ يوليو 1952 عاد الوفد إلى القاهرة منهكا ومصدوما.. فقد كان لدى الهضيبي بعض التحفظات التي أزعجت ضابط الشرطة صلاح شادي المفوَّض من جانب فريق الإخوان لمناقشة التفاصيل الدقيقة مع جمال عبد الناصر في اجتماعات تقتصر على كليهما..

لسبب موضوعي، قسّم كاتب المحاضر المستشار حسن العشماوي محضر اجتماع ذلك اليوم (21 تموز/ يوليو 1952) إلى قسمين: جاء القسم الأول تحت عنوان "في الفجر"، وقد اقتصر ذاك الاجتماع على فريق الإخوان بعد لقاء وفدهم مع المرشد العام، وجاء القسم الثاني تحت عنوان "في المساء"، وفي هذا الاجتماع انضم عبد الناصر وبعض زملائه إلى فريق الإخوان؛ لمعرفة رأي المرشد العام فيما هم مقدمون عليه..

في هذا المقال "الطويل" جملة من الحقائق "التاريخية" تستحق الوقوف أمامها طويلا طويلا؛ لما فيها من إنصاف وتعرية.. إنصاف من يستحق الإنصاف، وتعرية من يستحق التعرية..

لا أدري ما رأي إخوان اليوم في رأي المستشار الهضيبي، لا سيما بعد أن عاشوا تجربة البشير في السودان الذي مكث في السلطة ثلاثين سنة، ثم كان من أمره ما كان، وها هو السودان يجني (اليوم) ثمرة استئثاره بالسلطة دما ودمارا وانقساما!

لقد اتسم رأي المستشار الهضيبي بالنبل والمسؤولية، إذ قال لوفد الإخوان: "إذا كان الأمر قد أُبرم، فإننا لن نخونهم، وسنؤيدهم، وندعو لهم بالتوفيق، ثم بالهداية بعد ذلك.. أما إذا كان الأمر لم يُبرم بعد، ولا يزال تحضيرا لحركة يقوم بها هؤلاء أو غيرهم لحسابهم أو لحساب الحركة الكبرى، فهو ليس مع هذا الرأي؛ لأنه لا يثق في الانقلابات العسكرية، حتى لو كان الضابط الذي سيقود الانقلاب من الإخوان المسلمين"!

لا أدري ما رأي إخوان اليوم في رأي المستشار الهضيبي، لا سيما بعد أن عاشوا تجربة البشير في السودان الذي مكث في السلطة ثلاثين سنة، ثم كان من أمره ما كان، وها هو السودان يجني (اليوم) ثمرة استئثاره بالسلطة دما ودمارا وانقساما!

أما جمال عبد الناصر، فكان يعرف تماما (منذ البداية) ماذا يريد.. لقد كان مفتونا بكتاب "الأمير" لميكيافيللي! وطبَّق ما فيه حرفيا طوال مسيرته التي نقلت مصر من دولة على أعتاب التقدم إلى شبه دولة متسولة لم تعد تملك من أمرها (اليوم) شيئا!

لقد اعترف عبد الناصر أنه لم يحارب اليهود في فلسطين، وأنه لم يعتبر نفسه في قتال معهم من الأساس! فعندما سأله العشماوي (كاتب المحاضر) عن ذلك الضابط اليهودي الذي كان "يأنس" له عبد الناصر، وتتلمذ على يديه أو "استفاد منه" بتعبير عبد الناصر: "ألم يحاول قتلك؟ ألم تكونا في قتال؟"..

أجاب عبد الناصر: "لا.. لم يحاول أبدا.. وعلى كُلٍّ، فأنت تعلم أني ما حاولت قتالا طوال وجودي في فلسطين.. إنما فعل ذلك أمثال نجيب، وعبد الحكيم، وكمال، ومعروف، وعبد المنعم، وأحمد عبد العزيز، أما أنا.. فأنت تعرف رأيي في العواطف والبطولات".

هذا هو الزعيم الملهم، الذي "خلق" في نفوس المصريين العزة والكرامة، حسب تعبيره بصوته المشروخ، أثناء خطابه في المنشية بالإسكندرية، بعد إطلاق الرصاص "الفشنك" في الهواء، والذي روَّج له (بعد ذلك) باعتباره محاولة اغتيال فاشلة من جانب الإخوان.. ولو كان لدى الإخوان نية لقتله لقتلوه بكل سهولة، ودون ضجيج!

وأخيرا وليس آخرا.. إليك (عزيزي القارئ) هذا القول الصادم لعبد الناصر: "إن الشعب المصري في رخاء.. وقد أثبت التاريخ لي أن هذا الشعب يثور أو يؤيد الثورات وهو في رخاء.. أما إذا شُغل بضيق الحال، وشُح الرزق، انشغل عن الثورة".. فسأله العشماوي: "أتعني أنك ستحرمه رخاء الحال؛ لتضمن بقاءه تحت سيطرتك؟! فأجاب جمال: لا.. لا طبعا.. لم أقصد ذلك.. يا لك من خبيث في تحليل أقوالي"..

لماذا كان "الانقلاب" على الملك إذن إذا كان الشعب المصري ينعم بالرخاء؟! هل عرفت (عزيزي العربي) لماذا يحرص حكامنا على إفقارنا وقهرنا وإشغالنا بلقمة العيش؟!

لنتابع ما سجله المستشار حسن العشماوي في محضر ذلك اليوم (أنقل منه بتصرف) للوقوف على تفاصيل أكثر..

اليوم الثالث/ 21 تموز/ يوليو 1952

(1) في الفجر

- صلاح [شادي]: المهم.. ماذا قال المستشار [الهضيبي]؟

- فريد [عبد الخالق]: قال إن المَلَكيّة إلى زوال، ووافق على المبدأ مع بعض تحفظات.

- صلاح (منفعلا): أية تحفظات؟ ألم تقولوا له ما قلته لكم من أننا متفقون على أن هذه الحركة هي الخطوة الأولى للحركة الكبرى؟ ألم تقولوا له إن جمالا منا؟ ألم تقولوا له إنه أقسم على المصحف أن يعمل للإسلام.. أن يعمل للدعوة؟

(يرقد عبد القادر وحسن على الأرض في محاولة للنوم، ويلقي صالح جسمه المرهق على أحد الكراسي في شبه إعياء، ويجلس فريد بجوار صلاح المنفعل يحدثه)

- فريد: قلنا له كل شيء، ولكن يبدو أن آخرين يرون غير رأيك.. البعض يرى أن جمالا خان عهده مع الصاغ [المقدم] محمود لبيب. [مؤسس تنظيم الضباط الأحرار بالتشاور مع الإمام البنا- رحمهما الله].

- صلاح (في حدة): من قال هذا؟ إنه أكد لي ذلك العهد.

- فريد: أكد لك على انفراد، ودون حضور ضباط من الجيش منا.. فلا أحد يشهد بذلك غيرك.

- صلاح: ألا يسعى بذمتكم أدناكم؟ لقد قطعت معه عهدا.

- عبد القادر (يرفع رأسه): وتحفظات المستشار؟

- صلاح: على أي شيء تحفظ؟

- عبد القادر (وهو يضع رأسه ثانية): سيجيبك فريد.

- فريد: لقد كان يوما مرهقا.. لقد بدأنا معه [مع الهضيبي] وكأنه لا يعلم شيئا عن الموضوع.. عن جمال وصلتكم به.. ولولا أن حسنا أكد لنا أنه كان ينقل إليه [إلى الهضيبي] كل لقاء مع جمال وأصحابه منذ عام لعدنا إلى القاهرة فورا.. ولكننا آثرنا البقاء في الإسكندرية إلى المساء.. ورجعنا إليه فقال: إذا كان الأمر قد أبرم فإننا لن نخونهم، وسنؤيدهم، وندعو لهم بالتوفيق، ثم بالهداية بعد ذلك.. أما إذا كان الأمر لم يُبرم بعد فإنه لا يثق في الانقلابات العسكرية!

هذا هو الزعيم الملهم، الذي "خلق" في نفوس المصريين العزة والكرامة، حسب تعبيره بصوته المشروخ، أثناء خطابه في المنشية بالإسكندرية، بعد إطلاق الرصاص "الفشنك" في الهواء، والذي روَّج له (بعد ذلك) باعتباره محاولة اغتيال فاشلة من جانب الإخوان.. ولو كان لدى الإخوان نية لقتله لقتلوه بكل سهولة، ودون ضجيج

- صلاح (مقاطعا): حتى لو كان الضابط الذي يقوم بالانقلاب العسكري منا؟

- فريد: حتى لو كان منا.. ثم إنه لا يثق بأنه منا [يعني جمال عبد الناصر].

- صلاح: ولكني أعتبره كذلك، وحسن [العشماوي] يشاركني الرأي.

- حسن (دون أن يتحرك): وعبد القادر يخالفنا الرأي.

- صلاح: وهل أبدى عبد القادر رأيه للمستشار؟

- فريد: لا.. عبد القادر لم يتكلم.. ولكن المستشار حدثنا حديثا يشبه حديث عبد القادر لنا في الطريق إلى الإسكندرية.. وبالمناسبة لقد عتب المستشار على حسن [العشماوي كاتب المحاضر] لأنه عاود الاتصال بجمال.

- صلاح: ألم يشرح له حسن ما يحدث؟ لقد كان الاتصال منه هذه المرة أيضا.. أنرفض ثم نواجه بالأمر الواقع؟

- فريد: لقد كان يفضل أن يتم الاتصال بعبد الحي [أبو المكارم] وعبد المنعم [عبد الرؤوف- وهما من الضباط الإخوان].

- صلاح (متسائلا): عن عدم ثقة بنا؟

- فريد: لا.. إنه يثق فيكم، ولكنه يعتقد أن عبد الحي وعبد المنعم يعرفان جمال وأصحابه أكثر منكم.

- صلاح: وماذا نفعل نحن؟ أنفرض عليه الاتصال بمن لا يريده منا؟ وكيف لنا ذلك؟

- فريد: لعل مرجع عدم ثقة جمال فيهم أنهم يعرفونه جيدا.. هكذا يعتقد المستشار.. وقد لاحظنا في جلسة المساء كأنه على علم بقرب الحركة [يعني الهضيبي].

- صلاح (متسائلا): من أين يعلم؟

فريد: لم يقل.. ولكن حديثه يشير إلى علمه.. ويشير إلى أن مصدر علمه هو عبد الحي [أبو المكارم] أو عبد الرحمن [السندي، رئيس الجهاز الخاص].

- صلاح: دعونا من هذا الأمر.. ما هو قرار المستشار في رأيكم يا من قابلتموه دوني؟

- فريد: لقد ألححنا عليك أن تكون معنا، أو أن تذهب وحدك، ولكنك رفضت.

- صلاح: يكفي حسن، وقد كنت مشغولا.. ما هو القرار الآن؟ فالرجل [عبد الناصر] ينتظر، وقد يحضر بعد قليل!

- فريد: القرار كما قلته لك من البداية.. إذا كان الأمر قد أبرم فهو يَعِد ألا يخونه، ويقبل أن يعاونه.. وإذا كان الأمر لا يزال تحضيرا لحركة يقوم بها هؤلاء أو غيرهم لحسابهم أو لحساب الحركة الكبرى فهو ليس من هذا الرأي.. وخاصة أنه لا يثق في الانقلابات العسكرية.

- صلاح: إذا هو موافق على ما أبرمنا.

- فريد (في تعجب): أفهمتَ هذا مني؟

- صلاح: طبعا.. هذا واضح من قرار المستشار.. أليس كذلك يا حسن؟

- حسن: دعني أنام حتى الصباح.

- صلاح (في عنف): ليس هذا وقت النوم.. الأمر جد وعاجل.

- حسن: أنت أدرى باتفاقك مع جمال.

- صلاح: بل أنت تعلمه أيضا.. وتعلم الكثير عن الموضوع.. فقل رأيك بصدق كما عودتنا، ولا تتهرب الآن ونحن في الموقف الحاسم.

- حسن (يجلس بادي الإرهاق، ويتكلم بصوت ضعيف): أنا أشعر أن الأمر قد أبرم، وأنهم مقدمون على الحركة بنا أو بغيرنا.. ألم تقل: إن اسم جمال وصل إلى الملك؟.. إنه لن يتردد أن يضحي بأي شيء لتقوم الحركة.. إن أمرا سيحدث.. ألست معي يا عبد القادر؟

- عبد القادر: أنا معك فيما قلته.. ولكن ما صلة هذا بقرار المستشار؟

- حسن: كيف؟ ألم يقل إنه يوافق إذا كان الأمر قد أبرم؟ أتشك في أنه أبرم فعلا؟

- عبد القادر: أبرم بسبب موقفك وموقف صلاح.

- حسن: لا.. بل بسبب شخصية جمال.. أتنكر ذلك؟

- عبد القادر: نعم.. لشخصيته دخل كبير.. وخاصة في إقناعكما وإقناع غيركما.

- صلاح: إذا، سأبلغ جمالا ذلك حين يحضر.. سأنام في الداخل، وأيقظاني عند حضوره.. (يهم بالخروج)..

- صالح [أبو رقيق] (ينهض قائلا): انتظر.. ألا ترى أنك تتصرف وحدك؟

- صلاح: لا.. لقد اتفقنا.. وأنا أتصرف بناء على اتفاقنا، وفهمي لقرار المستشار.. قد وضعت يدي في يده ولن أسحبها.. (يخرج).

- فريد: إني مشفق مما يجري.

- حسن: أخائف أنت؟

- فريد: لا.. لست خائفا.. ولكن هل تثقون في هذا الرجل؟

- حسن: نعم.

- عبد القادر (مقاطعا): نم يا حسن.. أو اذهب إلى بيتك لعلك تنام هناك.. أو على الأقل ترى وليدك الذي وُلد صباح الأمس ولم تره.. ماذا ستسميه؟ هل ستسميه "انقلابا"؟

(يدق الباب دقا خفيفا ثلاث مرات.. يقوم عبد القادر فيفتحه، ويدخل جمال)

جمال [عبد الناصر] (في لهفة): هل وافق المستشار؟

(لا أحد يجيب.. يخرج عبد القادر ويعود فورا مع صلاح الذي ينتحي ناحية جمال.. يتهلل وجه جمال)

- جمال: إذا وافق المستشار.. الحمد لله.. (لا أحد يجيب).. جمال مواصلا كلامه: سأذهب الآن، وسأعود في المساء.. لن أكون في بيتي.. إذا جد أمر قبل المساء سأتصل بك يا حسن.. سيحضر عبد الحكيم وكمال هنا في المساء.. إن هذا الخبر سيشجعهما حقا.. إلى اللقاء.

- حسن (ناهضا) سأذهب إلى بيتي ثم إلى المحكمة.. وأراكم في المساء.

(حسن يطفئ النور ويخرج)

(2) في المساء

(ذات الغرفة عند الغروب.. جمال [عبد الناصر] وحسن [العشماوي] يجلسان متجاورين على أريكة.. يحتسيان قهوة ويدخنان.. ليس معهما أحد في الغرفة.. صمت يقطعه جمال)

- جمال: إذن.. وافق المستشار.

- حسن (يتثاءب ولا يجيب)!

- جمال: ما لك لا تجيب؟

- حسن: ألم تسأم هذا السؤال والإجابة عليه؟

- جمال: لقد كان يستطيع أن يبيعنا للملك، وأن يقبض الحكم ثمنا [يعني المستشار الهضيبي].

- حسن: ليست الخيانة من خلقه.

- جمال: هذا صحيح.. إنه رجل واضح وصريح، ولكنه عنيد.. هكذا يقولون..

- حسن: عنيد فيما يراه حقا.. وإن شئت الدقة، فهو صلب في الحق، لين أمامه.

- جمال: أراك تحبه؟

- حسن: طبعا.. إنه يستحق الحب.

- جمال: ألم يكن من الخير أن تختاروا شابا من الجماعة بدلا عنه؟ القاضي مثلا إذا شئتم المظهر الهادئ [يعني عبد القادر عودة].

- حسن: لا.. لم يكن يصلح سواه لما واجهنا من أحداث، ولما سنواجه فيما أعتقد.

- جمال: أحداث الحكم تعني؟

- حسن: إنه يرفض الحكم كما قلت لك مرارا بانقلاب أو بغير انقلاب.. هذا أمر يحتاج إلى تحضير؛ حتى لا تكون فورة سرعان ما تنطفئ.

- جمال (في شبه همس): إذن سنقوم بالحركة غدا.. بعد منتصف الليلة القادمة.. وستكون حركة الثالث والعشرين من يوليو.. ولكن قد نتأخر للضرورة أيام.

- حسن: يوليو شهر الثورات.. الثورة الفرنسية.. واستقلال أصدقائك الأمريكان.

- جمال: إن الشعب المصري في رخاء.. وقد أثبت التاريخ لي أن هذا الشعب يثور أو يؤيد الثورات وهو في رخاء.. أما إذا شُغل بضيق الحال، وشُح الرزق، انشغل عن الثورة.

- حسن: أتعني أنك ستحرمه رخاء الحال لتضمن بقاءه تحت سيطرتك؟

- جمال: لا.. لا طبعا.. لم أقصد ذلك.. يا لك من خبيث في تحليل أقوالي.

(يضحكان)

- جمال (مواصلا الحديث): في هذا الشهر منذ أربع سنوات كنت أفكر في الأمور.. كنت أجلس بانتظام مع الضابط اليهودي المقابل لي في الجبهة.

- حسن: أكنت تأنس بالجلوس إليه يا جمال؟

- جمال: ما معنى تأنس؟! لقد كنت أستفيد.

- حسن: أجل.. الفائدة هي التي تهمك.

- جمال: وهل الفائدة حرام؟

- حسن: الفائدة الحلال حلال.

- جمال: كان واسع المعلومات.. لقد استفدت منه كثيرا في تفكيري وتخطيطي.

- حسن: هل أحببته رغم عداوتك له؟

- جمال: أنا ما كرهته.. أنا لا أكره إلا من يحاول قتلي.

- حسن: ألم يحاول قتلك؟ ألم تكونا في قتال؟

- جمال: لا.. لم يحاول أبدا.. وعلى كُلٍّ فأنت تعلم أني ما حاولت قتالا طوال وجودي في فلسطين.. إنما فعل ذلك أمثال نجيب، وعبد الحكيم، وكمال، ومعروف، وعبد المنعم، وأحمد عبد العزيز، أما أنا.. فأنت تعرف رأيي في العواطف والبطولات.

- حسن (محاولا تغيير الموضوع): وما أخبارك مع أصدقاء موريس؟ [كان عبد الناصر عضوا في إحدى الخلايا الشيوعية ويحمل اسم "موريس"].

- جمال: ألن تكف عن هذا التعيير؟ لقد دخلت الخلايا الشيوعية لأستفيد منها.. لأتعلم جديدا، وقد أخذت منهم ولم أعطهم شيئا.

- حسن: أنت دائما تأخذ ولا تعطي.

- جمال (هامس): طالما أعطيت ولم آخذ.

- حسن: وكيف أصدقاؤك العملاء؟

- جمال: العملاء.. الحشاشون.. الجواسيس.. الشيوعيون.. مصر الفتاة.. الوفديون.. كل هؤلاء معي.. أو هم على الأقل ليسوا ضدي.. إنهم يفيدونني عند اللزوم.. كلهم مطمئنون إليَّ مباشرة أو بالواسطة.. ألم تقرأ كتاب الأمير بعد؟

- حسن: قلت مائة مرة إني قرأته.

- جمال: آه صحيح.. لقد قلت لي ذلك.. ولكن لماذا لم تلخصه لنا فيما لخصت من كتب؟

- حسن: ألم تر أن يكون كل من معك ميكيافيليا؟ يكفي واحد.

- جمال: صدقت... كم نصحت عبد الحي [أبو المكارم] وعبد المنعم [عبد الرؤوف] ومعروف [الحضري] بقراءته، ولكن يبدو أنهم لم يفعلوا.. وإلا لكان لهم اليوم شأن آخر.. [الثلاثة كانوا من الضباط الإخوان].

- حسن: لقد قرأته أنا.. ولا يزال شأني كما هو.

- جمال: أنت لست ضابطا في الجيش.. ثم أنت لم تقتنع بكل ما فيه.

- حسن: وهل أنت ضابط في الجيش حقا؟.. كان رائعا أن تكون سياسيا.

- جمال: سأكون... إنما الجيش وسيلة.

- حسن: تبررها الغاية.

(يضحكان)

- حسن (مواصلا): وماذا فعلت مع رشاد [مهنا]؟

- جمال: سنبلغه قبل التحرك.. سيقوم سالم بذلك.. فإن خرج معهم كان منا، وإلا اعتقلناه.

- حسن: ونجيب؟

- جمال: سيعلم بعد الحركة.. وسيكون الواجهة.. وسيلقي أنور البيان الأول في الإذاعة.. وسيتحرك يوسف وشديد وشوقي ومعروف طبعا.. وسيكون معهم من لنا في المواقع.. (يخفض صوته) وسأحتاط لأمري.

- حسن: دائما تحتاط لأمرك... فأنت كما تقول دائما لست عسكريا في أعماقك.. ولكن كيف ستحتاط؟

- جمال: سأبقى في الكلية بالملابس المدنية.. وسيكون عبد الحكيم [عامر] معي.

- حسن (مقاطعا): ولكن عبد الحكيم عسكري في أعماقه.

- جمال: ولكني أريد أن أجنبه البداية.. لا تنسى قرابته بحيدر، وهذه القرابة التي أوغرت صدر الملك، حين علم أنه من الضباط الأحرار.

- حسن: ألا يزال صاحبك حسين سري عامر [الذي حاول عبد الناصر اغتياله] يوغر صدر الملك على حيدر؟

- جمال: إن أمله أن يخلفه.. وقد فعل تقريبا.

- حسن: وسيخسر المتسابقان.. وتخلفهما أنت.

- جمال: بل يخلفهما عبد الحكيم.. أما أنا فلا.. أنا سألبس جلبابي وأعود إلى قريتي.

- حسن: اخدع غيري بمسألة الجلباب والقرية..

(يضحكان.. ويدخل عبد القادر)

- عبد القادر: أراكما تضحكان!

- حسن: إنما كنا نتناجى في انتظار القادمين.

- عبد القادر: ما أطول نجواكما.. كأن لم تختلفا بعد.

- جمال: نحن لن نختلف أبدا.

- عبد القادر: بل قل لم تختلفا إلى الآن.

- جمال: ولن نختلف بعد الآن.

- عبد القادر: لا تجزم بالمستقبل كيف يكون.. قد تختلفا لأهون الأسباب.

- جمال (في استنكار) أنحن نختلف؟ لماذا؟ أنحن نختلف يا حسن؟

- حسن: لا أظن، آمل ألا نختلف حين تأتيك السلطة.

- جمال: السلطة! لن تكون السلطة لي ولا لك.. ستكون للشعب.

- حسن: دع الشعب وشأنه.. فأنت تعلم رأيي في الشعار.

- جمال: ما أقساك على الشعارات.

- حسن: أو تؤمن بها أنت؟

- جمال: لا.. ولكني أؤمن بجدواها!

- حسن: أنت تستفيد منها، كما تستفيد من كل شيء.

- عبد القادر (مصفقا): اختلفتما والحمد لله.

- جمال: لا.. لم نختلف والحمد لله.. (مغيرا موضوع الحديث): لقد تأخر القوم.

- عبد القادر: صلاح هنا، عنده ضيوف في الغرفة المجاورة.

- جمال (في تعجب): ضيوف؟ من عنده؟

- عبد القادر (يهز كتفيه ولا يجيب)!

- جمال (في إصرار): أرأيتهم؟

- عبد القادر (في هدوء) وهب أني رأيتهم!

- جمال: أتعرفهم؟

- عبد القادر: وهب أني أعرفهم ولا أريد أن أقول.. ما وجه إصرارك؟ أسأل صلاحا حين تلقاه.

- جمال: أنت هكذا دائما.

(يدق جرس الباب.. ويخرج عبد القادر ويعود ومعه عبد الحكيم [عامر] وكمال [الدين حسين].. يسلّمان متهللي الوجه)

- عبد الحكيم: أصحيح أن المستشار وافق؟

- عبد القادر: انتظر حتى يحضر صلاح ويقول لك.

- عبد الحكيم: حتى موافقة المستشار لا بد أن تبلغ رسميا عن طريق صلاح؟

- عبد القادر: ألم يبرم صاحبكم [يعني عبد الناصر] معه اتفاقا على انفراد؟

- كمال: أي اتفاق؟

- جمال (مضطربا): ستعلم به في اجتماع الليلة عندي.

- حسن: أين صالح [أبو رقيق] وفريد [عبد الخالق]؟ هل عادا إلى منزليهما؟

- عبد القادر: لا.. إنهما نائمان في الداخل.. لم يعد أحد إلى منزله منذ بدأت لقاءاتنا هنا.. ولا أدري متى تنتهون، ويعود كل منكم إلى بيته وتتركوني وشأني.

(يُفتح الباب ويدخل صلاح [شادي]، ويقوم عبد الحكيم وكمال للقائه)

- صلاح: أهلا بالأحبة.

كمال (وهو يحتضنه): أهلا بالحبيب.. ما وراءك؟ هل وافق المستشار؟

- صلاح: وافق.

- كمال: ما مدى موافقته؟

- صلاح: كل الموافقة.. نموت معكم في قتال إذا اقتضى الحال.

- عبد الحكيم: الحمد لله.. إذا نترككم الآن.. فما جئنا إلا لنسمعها منكم. فإلى لقاء بعد الحركة.. هيا يا جمال.

- جمال: هل تبيت في منزلك الليلة القادمة يا حسن.. افعل أرجوك، لأني سأتصل بك تليفونيا أول شيء بعد دخولنا إدارة الجيش إن نجحنا.. لا تنس عند ذاك أن تذهب أو ترسل أحدا إلى بيتي لتطمئن أهلي.. وإذا لم ننجح فستتصل بك سيدة.. وتقول إنها تحية.. اسمع منها وحاول إنقاذي.. إلى لقاء وادع لنا.

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 18-04-2023 10:22 ص
*** تفاصيل تاريخية أليمة، لفترة الإعداد والتآمر لتنفيذ الانقلاب العسكري، لمجموعة الضباط الذين نجحوا في تنفيذ انقلابهم على قيادة الجيش المصري في 1952، والذين تمكنوا من السيطرة والانفراد بحكم دكتاتوري استبدادي لمصر لعقود بعدها، قبل أن يقوم الانقلابيون بخيانة وتصفية بعضهم البعض، والذي ما يزال الشعب المصري يعاني من آثارها، والمرارة تزداد بعد معرفة النتائج السوداء التي ترتبت على حكم عسكر انقلاب 1952، وما تلاه من أحداث مريرة، من انفصال السودان في 1956، وتفكك الجمهورية العربية المتحدة في 1961، وأدت إلى أكبر هزيمتين في تاريخ مصر الحديث في 1956، وهزيمة 1967 التي ما تزال مصر وشعبها يعانون إلى اليوم من نتائجها، والزج بمصر في حرب عبثية لسنوات في اليمن من 1962، لرغبة ناصر في إشباع طموحه الشخصي بمد نفوذه لإقامة امبراطورية ناصرية عربية واغتراره بنفسه، حيث ارسل النظام الناصري ما قدر بسبعين ألف جندي مصري لغزو اليمن، وقتل خلال تلك الحرب ما بين 15 ألف إلى 26 ألف جندي مصري، بالإضافة للآلاف الذين أصيبوا بعاهات مستديمة، مع جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش المصري فيها بقصف المدنيين العزل، وأدت إلى انقسام وقتال دام بين الدول العربية، واستنزاف الجيش والاقتصاد المصري والعربي، وكانت من أهم أسباب الهزيمة المخزية في 1967 أمام الصهاينة، واحتلال القدس وما تبقى من فلسطين، وجزء عزيز من أرض مصر وسوريا، وكثيراً ما تنتقد قيادات جماعة الإخوان المسلمين لتورطها في تأييد انقلاب 1952 في فترة الإعداد له، هي وقوى سياسية أخرى، رغم عدم مشاركتها الفعلية في الحكم، بل كانوا من ضحاياه، وكل الشعب يتحمل أوزارها، كلاً في مجاله وفي حدود قدرته ومدى تقاعصه عن نصرة الحق ومدى تأييده للباطل وانخداعه فيه، وقدر الله وما شاء فعل، ولم يبق إلا الاستفادة والتعلم من عبرة التاريخ حتى لا نتكرر نفس الخطايا بأحداثها الدامية، والله أعلم.