قضايا وآراء

السادات والتيار الديني.. ولحظة لويس التاسع!

هشام الحمامي
لماذا عاد الحديث عن السادات والتيار الديني؟
لماذا عاد الحديث عن السادات والتيار الديني؟
المتأمل للحالة الفكرية والسياسية التي كانت عليها الأمة خلال القرون الثلاثة الأخيرة وفي القلب منها مصر، والتي كانت في هذا الوقت -وغيره في الحقيقة- تمثل المنبع والمصب لكل الحركات الإصلاحية بطول وعرض العالم العربي والإسلامي.. سيجد أن الإسلام كان يمثل "القوة المركزية" في كل الأوقات وفي كل الحالات.. وظل الأمر كذلك في حركة دائمة تتراوح ما بين اتساع وضيق، ليس بسبب صواب الطريق، والفكرة التي تمهده وتحميه، ولكن بسبب الظروف والأحداث والتحولات العالمية التي كان الشرق الإسلامي أحد ميادينها الكبرى طوال هذه الفترة.. بين غزو مباشر، وحروب دولية كان الصراع على الشرق وتطويعه حضاريا، هدفا أساسيا من أهدافها..

وظل الأمر كذلك في الوعي الشعبي العام، وفي وعي القادة والمصلحين كما سمعنا مثلا من الزعيم سعد زغلول (ت: 1927م) في أحد المؤتمرات الشعبية الكبرى بعد أن أصبح زعيم الأمة.. سمعناه يذكر الناس بمن سمّاه "موقظ الشرق" جمال الدين الأفغاني (ت: 1897م).. ناهيك عن كتابات كل المفكرين والرواد عن الفكرة الإصلاحية وزعمائها.. من شكيب أرسلان، لأحمد أمين، للعقاد..

* * *

حتى قامت الدولة الوطنية.. دولة ما بعد الاستعمار التي أشرف الاستعمار على مجيئها بنفسه.. كما قرأنا في كثير من مذكرات القادة والعسكريين والسياسيين الذين قادوا هذا "القيام العظيم"!!.. أو ساهموا فيه بدرجة أو بأخرى.. وكانت حركة الضباط الأحرار والزعيم الخالد في مصر أحد أوضح التجليات لهذا الانتقال التاريخي بالغ الخطورة.. لم يكن الأمر فقط عملية "إحلال وتبديل" ضمن ديناميكيات التاريخ المعتادة.. لا.. لم يكن الأمر كذلك أبدا.. ولم يكن كذلك في يوم من الأيام حتى يومنا هذا.

كانت حركة الضباط الأحرار والزعيم الخالد في مصر أحد أوضح التجليات لهذا الانتقال التاريخي بالغ الخطورة.. لم يكن الأمر فقط عملية "إحلال وتبديل" ضمن ديناميكيات التاريخ المعتادة.. لا.. لم يكن الأمر كذلك أبدا.. ولم يكن كذلك في يوم من الأيام حتى يومنا هذا
ليس فقط لوجود إسرائيل حاملة الطائرات الغربية في قلب الشرق كما كان يحلو للشهيد عبد المنعم رياض، رئيس أركان الجيش المصري بعد الهزيمة ( ت: 1969م)، وصفها.. ولكن وهو الأهم للحفاظ الدائم على لحظة لويس التاسع ملك فرنسا (ت: 1270م)!!.. وما هي لحظة لويس التاسع؟

* * *

هي في الحقيقة.. لحظتهم ولحظتنا أيضا.. تقول الحكاية إن لويس التاسع دعا أوروبا كلها الى الاحتشاد خلفه في حملة صليبية سابعة، وذلك حين قرر أن يستعيد بيت المقدس من المسلمين بعد تحريره للمرة الثانية عام 1244م.. قرر الملك المحنك أن يستعيده من مصر! نعم.. فعلى من يريد هناك.. عليه أولا أن يسيطر على هنا.. وهناك هو الشرق كله وهنا هي مصر..!! وبقيت هذه الحقيقة صحيحة تماما على كل مستويات التاريخ والاستراتيجيات.. وكانت تلك لحظتهم.. التي عاشوها في كل الأوقات ولا زالوا!

لكن التجربة الـ"لويسية" نفسها فشلت وهُزمت الحملة الصليبية السابعة، وتم أسر لويس التاسع في دار القاضي "ابن لقمان" بمدينة المنصورة.. وكانت تلك لحظتنا التي نغفل عنها في بعض الأوقات!

* * *

لويس التاسع هزمته الأمة.. هزمه المجتمع.. كان دور الأمة والمجتمع سابقا على دور الجيوش وقتها كما قال لنا المؤرخ المعروف ابن إياس (ت: 1524م) في كتابه: "بدائع الزهور ووقائع الدهور" (إصدار الهيئة العامة للكتاب).. يقول: وقدمت الشواني بالمحاربين والسلاح، وأعلن النفير العام في البلاد فهرول عوام الناس أفواجاً من كافة أنحاء مصر إلى المنصورة لأجل الجهاد ضد الغزاة.

* * *

كانت القرارات المبكرة للضباط الأحرار سنة 1952م في التعامل مع الأوقاف وكل التنظيمات المدنية والأحزاب؛ تهدف بوضوح وحسم وشراسة بالغة إلى القضاء على الأمة والمجتمع.. ليتحول المجتمع الى أفراد تملك زمامهم الدولة.. والدولة فقط..
تصور أن تفكير الضباط الأحرار وثقافتهم التاريخية والاستراتيجية لا ترقى إلى ذلك المستوى من الإدراك التاريخي والاستراتيجي الكبير.. على أية حال لم تنتصف الستينيات على المصريين حتى كانوا جميعا خاضعي الأعناق للدولة في كل صغيرة وكبيرة.. واختفت وخافت وغابت الأمة وتنظيماتها الاجتماعية.. من خضع عاش خاضعا وفق القواعد والترتيبات.. ومن لم يخضع تم إخضاعه بالشراسة والقسوة

وأتصور أن تفكير الضباط الأحرار وثقافتهم التاريخية والاستراتيجية لا ترقى إلى ذلك المستوى من الإدراك التاريخي والاستراتيجي الكبير.. على أية حال لم تنتصف الستينيات على المصريين حتى كانوا جميعا خاضعي الأعناق للدولة في كل صغيرة وكبيرة.. واختفت وخافت وغابت الأمة وتنظيماتها الاجتماعية.. من خضع عاش خاضعا وفق القواعد والترتيبات.. ومن لم يخضع تم إخضاعه بالشراسة والقسوة التي تجعل من لا يعتبر يغرق في الاعتبارات جميعها!!

* * *

في كتابة "الأزهر والدولة: من يهيمن على من؟".. الذي ترجمه د. حمد العيسى ونشر أجزاء منه في مجلة الجزيرة الثقافية (السعودية) يقول د. تامر مصطفى أستاذ العلوم السياسية المشارك في جامعة "سيمون فريزر" الكندية: أن ما أحدثه الضباط بعد 1952 هو أكبر توغل في تاريخ المؤسسة الدينية إذ عمل على ضم الأزهر إلى سلطة الدولة، فأصدر أولاً قانون الإصلاح الزراعي في أيلول/ سبتمبر 1952 والذي ضم الأوقاف في وزارة جديدة لها.

ومن خلال السيطرة على أراضي الوقف اكتسب النظام أداة جديدة لمكافأة من يطيعونه ومعاقبة من يعارضونه، ثم تلى ذلك إلغاء المحاكم الشرعية، وهي محاكم كانت تعمل بموازاة المحاكم العلمانية التي أنشأها محمد علي..

أما الخطوة الأكثر طموحاً، فأتت عام 1961 حين صد قانون "مشروع إصلاح/ تحديث الأزهر"، الذي أعاد تنظيم الأزهر بصورة جذرية بحيث جعله يتبع وزارة الأوقاف رسميا، وأصبحت جميع موارد الأزهر تمر عبر قنوات الدولة الملائمة ما منحها تأثيراً هائلاً على المؤسسة الدينية. وعندما رفض الأزهر هذا الأمر، عيّن عبد الناصر ضباطاً من القوات المسلحة لإدارة الأزهر تمثلت مهمتهم في إزالة أية مقاومة لسيطرة الحكومة..

ما حدث مع الأزهر الشريف وشيوخه وعلماؤه.. حدث مع التنظيمات الدينية المدنية غير الرسمية والأحزاب والنقابات وكل التجمعات المدنية الصلبة ذات التأثير والحشد الشعبيين.. طبعا السبب المعلن سيتكفل بإعلانه "كلاب بافلوف" الذين يسيل لعابهم دائما دون أن يسمعوا الجرس.. من الكتاب والإعلاميين على حد تعبير عالم الوراثة الشهير شارجاف ايروين (ت: 2002م)..

* * *

سيتكشف لنا الحضور الواسع للدين الذي كان ينطق بحقيقة الحقائق في وعي هذا الشعب بنفسه وبتاريخه وقيمته.. ولا مفر من اعتبار هذه "الحقيقة الخالدة" في كل وقت وحين.. وهي "حقيقة صلبة" فيما يتعلق بالمصريين وتكوينهم النفسي والحضاري.. وفيما يتعلق بالإسلام ذاته كدين وحياة فيه كل ما في الاعتقاد والعبادات من طمأنينة وسكينة وبكل ما في التشريع والمنهاج من يسر وكمال
سنقفز سريعا إلى السنوات الست (1967-1973م) العصيبة والأكثر صعوبة، التي عاشها الشعب المصري بكل ما يحمله من رصيد طويل في القدرة والقوة على مواجهة شدائد الأحوال.. سيتكشف لنا الحضور الواسع للدين الذي كان ينطق بحقيقة الحقائق في وعي هذا الشعب بنفسه وبتاريخه وقيمته.. ولا مفر من اعتبار هذه "الحقيقة الخالدة" في كل وقت وحين.. وهي "حقيقة صلبة" فيما يتعلق بالمصريين وتكوينهم النفسي والحضاري.. وفيما يتعلق بالإسلام ذاته كدين وحياة فيه كل ما في الاعتقاد والعبادات من طمأنينة وسكينة وبكل ما في التشريع والمنهاج من يسر وكمال..

والحقيقة أنه منذ تولي الفريق عبد المنعم رياض (ت: 1969م) رحمه الله رئاسة الأركان في 11 حزيران/ يونيو 1967م وبدأت الزيارات الكثيفة للعلماء والشيوخ.. بدءاً من الشيخ حسن مأمون والشيخ الفحام ود. عبد العزيز كامل، المفكر والعالم الكبير الذي كان وزيرا للأوقاف أثناء حرب أكتوبر.. لقد كان الحضور الديني يملأ المكان كله والوعي كله.

* * *

بعد حرب 1973م تم الإفراج تقريبا عن كل السياسيين والإصلاحيين من التيار الديني الذين -كما حكوا في مذكراتهم- وجدوا المجتمع الذي توقعوه ليس على ما توقعوه!.. وجدوا مساجد ممتلئة بشباب ملتحٍ وفتيات في عمر الزهور يرتدين الحجاب.. وجدوا الدين في قلوب ودروب المصريين.. وهو الشكل الذي اكتسب أروع مظاهره بصيحة الله أكبر في حرب 1973م..

في حفلات السيدة أم كلثوم (ت: 1975م) بعد الهزيمة وقبل وفاة الزعيم الخالد، والتي لا تزال تُذاع مصورة حتى الآن.. كنت ستجد لافتات الآيات القرآنية تملأ القاعة!..

من فعل ذلك..؟ الرئيس السادات الذي لم يكن حتى نائبا وقتها؟ أم الإصلاحيون الإسلاميون الذين كانوا في سجونهم؟

كانت الأحداث التاريخية الصادقة تتكون وتتفاعل وتكتسب معناها وتعبر عن نفسها بنفسها كما هي دون تدخل من مخلوق.

* * *
كان طبيعيا أن تكون الطبقة الوسطى هي خير معبر عن تفاعلات المجتمع ومراجعاته وكانت أبرز تجلياتها في الجامعات.. فكان التدين التلقائي الذي أخذ في التوسع شيئا فشيئا في الوقت الذي بدأت فيه أفكار وأشخاص اليسار تتهاوى شيئا فشيئا.. في صيرورة وتحول تاريخي واجتماعي تحكمه قوانين لا علاقة لها بالبشر بأي وجه من الوجوه

وكان طبيعيا أن تكون الطبقة الوسطى هي خير معبر عن تفاعلات المجتمع ومراجعاته وكانت أبرز تجلياتها في الجامعات.. فكان التدين التلقائي الذي أخذ في التوسع شيئا فشيئا في الوقت الذي بدأت فيه أفكار وأشخاص اليسار تتهاوى شيئا فشيئا.. في صيرورة وتحول تاريخي واجتماعي تحكمه قوانين لا علاقة لها بالبشر بأي وجه من الوجوه.. وتكونت بعدها معادلات سياسية محكومة بالواقع كما هو في أم عينه.. وليس كما صنعه أحد من الآحاد.. حاكما أو محكوما..

* * *

ما صرح به أحد المذيعين من أيام قليلة في إحدى الفضائيات عن جريمة الرئيس السادات رحمه الله (ت: 1981م) وصنع التيار الديني في مصر، في توقيت كل أحداثه وتطوراته السياسية والاجتماعية لا علاقة لها لا بالسادات ولا بالتيارات الدينية.. لا يستدعى السخرية فقط، بل يستدعي الشفقة على هذا الذي لا علاقة له لا بالتاريخ قراءة وفهما.. ولا بالسياسة وعيا ورأيا.. ولا حتى له علاقة بأي معنى يتصل بالكلمات التي ذكرها.

والحقيقة لا أجد له معنى، إلا قول أمير الشعراء شوقي (ت: 1932م) حين كان يندهش من اضطراب واختلال أحدهم فيبتسم قائلا: لديه عطب في أعلى الرأس!

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)